"حِرف ناعمة"... زمن جميل اندثر لمربيات جزائريات

29 أكتوبر 2022
المرأة الجزائرية أكثر ابتعاداً عن الحِرف اليوم (بلال بن سالم/ Getty)
+ الخط -

لم تكن منازل الجزائر تخلو من مهن يدوية كثيرة مارستها النساء وسمحت لهن بالمشاركة في توفير مصاريف المنزل، أو المساهمة في تدبير شؤون عائلاتهن، وتخفيف الأعباء عن كاهل أزواجهن، ومنها حرفة الخياطة وحياكة الملابس والزّرابي، وتقطير ماء الورد وجمع الزيتون وعصره يدوياً وغيرها. لكن هذه الحرف التي تمثّل الزمن الجميل، تراجعت أمام تغيّرات الحياة الاجتماعية، والتحوّلات التي تعيشها الأسر.
حتى عقود قريبة كانت ماكينة الخياطة وأدوات الحياكة البسيطة وآلة نسج الصوف وأدوات الغزل، وجهاز تقطير الورد وغيرها، جزءاً لا يتجزّأ من أثاث البيت الجزائري التي تفتخر المرأة بوجودها، وتساهم في الترفيه عنها في أوقات الفراغ، بنفس القدر الذي يمثله اليوم وجود تلفزيون أو جهاز هاتف. حتى أن ماكينة الخياطة كانت إحدى إكسسوارات جهاز العروس عندما تزفّ إلى بيت زوجها، كما كان الأزواج يهدونها إلى زوجاتهم بعد العرس، أو حين ينجبن الطفل الأول ويصبحن أمهات.

من صنع أناملهن
تتذكر سليمة بن عبد الرحمان التي تقيم في حي السويقة بولاية قسنطينة شرقي الجزائر، في حديثها لـ"العربي الجديد" أن "النساء كن يتدرّبن على التطريز والخياطة والحياكة قبل الزواج للاستعداد لتكوين أسرة وإنجاب أطفال يجب أن يجهزوهم بملابس صيفية وشتوية من صنع أناملهن، كي لا يكبّدوا رب البيت مصاريف أخرى تضاف إلى اللّهث وراء لقمة العيش وتوفير الاحتياجات اليومية، في ظل ظروف صعبة عاشتها الجزائر خلال الفترات الأولى لما بعد مرحلة الاستقلال. ومن خلال ممارسة الحرف اليدوية المنزلية كانت المرأة في الجزائر تشارك زوجها في تقاسم الأعباء المادية، وتلعب دوراً مهماً في تحسين المستوى المادي، وتوفير ما تحتاجه الأسرة"، 
تتابع: "أحن كثيراً إلى هذا الزمن الجميل وإلى ماكينة الخياطة التي كنت أملكها والتي ظلت سنوات في بيتي فكبرت معها مثلما كبر أولادي. كنت أخيط ملابس لجميع أفراد أسرتي، كما كنت أتلقى طلبات من جيراني وأقاربي لصنع ألبسة مثل قمصان وتنانير وفساتين خاصة بالبنات الصغيرات، لكنني كنت أرفض تنفيذها كي لا تتحول إلى جهد آخر يلقى على عاتقي".

بحب وشغف
إلى ذلك، اشتهرت سيدات في مناطق عدة بنسج الملابس الشتوية لأطفالهن، ففي مدينة القليعة قرب العاصمة الجزائرية، عرفت النساء بشغفهن بـ"الكروشي"، القلمان في شكل إبرتين طويلتين من الألمنيوم اللذين تستخدمهما النساء في غزل الصوف ونسج الملابس الشتوية بألوان مختلفة، إضافة إلى المعاطف المصنوعة من الصوف، خاصة اللواتي كن ينتمين إلى عائلات ذات مداخيل محدودة، من اجل تجنب شرائها من السوق.
وتذكر حنان قاسيمي التي تقيم في الحي العتيق بمدينة ميلة شرقي الجزائر، في حديثها لـ"العربي الجديد"، أن "النساء كن يتفنن في حرفة غزل الصوف يدوياً وصنع ملابس مميزة منها، علماً أنه لم يكن يمكن ألا تتعلم أي امرأة حياكة الصوف يدوياً، وهو ما فعلته من خلال جدتي وأمي. وقد ربيت أبنائي الأربعة بألبسة صنعتها بيديّ من دون ان احتاج إلى شرائها من محلات. وأتذكر جيداً كيف كنا نتحضّر يومياً بعد انقضاء وقت تنظيف البيت وتحضير وجبة الغداء لقضاء وقت في ممارسة هذه الحِرفة. نجلس في إحدى زوايا البيت، ونحمل الإبرتين الغليظتين اللتين يطلق عليهما اسم السنارة، ونستخدم أنواعاً مختلفة من القطن أو الصوف لنسج قميص لأحد أبنائنا بحبّ وشغف كبيرين".

إلى مواقع عمل خارج البيوت (مونيك جاك/ Getty)
إلى مواقع عمل خارج البيوت (مونيك جاك/ Getty)

ماء الورد
وبمرور الوقت تقلص وجود هذه المهن اليدوية في بيوت الجزائر، بعدما مثلت جزءاً من مخزون الذاكرة الاجتماعية، ولم تعد السيدات تنسج أو تغزل أو تخيط لأسباب مختلفة. 
وبين الحِرف المنزلية التي بدأت تختفي من بيوت الجزائر تقطير الورد بوسائل تقليدية، بعدما كانت تهتم بها نساء في مناطق عدة، خاصة البليدة قرب العاصمة الجزائرية التي توصف بأنها عاصمة الورود، ومناطق في محيط قسنطينة شرقي الجزائر. وقد ورثت عائلات هذه الحِرف جيلاً بعد جيل، وكانت النساء يستخلصن ماء الورد بنفسهن، خاصة من زهرة اللارنج ذات الرائحة الزكية. 
ووفرت هذه الحرفة مداخيل مالية لعائلات من خلال ربيع خلاصة ماء الورد التي تعرف بـ"ماء القَطّار".

"حصاد النواعم"
وحتى وقت قريب كانت الأسر الجزائرية تصنع احتياجاتها من الخضار المخللة، مثل الفلفل والزيتون وزيت الزيتون، وكانت تتشارك في جني الزيتون خاصة في منطقة القبائل وسط البلاد، ومنطقة جيجل والأوراس. وتوصف العملية بأنّها "حصاد النواعم"، في إشارة إلى ارتباط هذه الحرفة بالمرأة واعتبارها احتفالاً سنوياً.
ويمثل جني الزيتون جماعياً أكثر الأعمال التي تقاوم التغيّرات الاجتماعية حتى اليوم، في ظل عدم اختلاف نمط الحياة الاجتماعية في المناطق التي تضم أشجارها. فحين يبدأ موسم جني الزّيتون مع حلول فصل الشتاء، تجتمع النساء لنفض أشجار الزيتون، وجمع حباته في أكياس ونقله للطحن والعصر بطريقة تقليدية، وهنّ يردّدن أغنيات شعبية.
وبعدما دأبت كل هذه الحِرف في أوقات الشدة والأزمة على ضمان العيش الكريم لعائلات، تقلص حضورها حالياً بتأثير التحوّلات الاجتماعية التي شهدتها هيكلية الأسر الجزائرية، والتطور الذي طرأ على نمط العيش، وواقع الاستقلال الاجتماعي والمادي للنساء.
ويقول أستاذ الاقتصاد في جامعة غيليزان غربي الجزائر، موسى موزاي، لـ"العربي الجديد": "اختفاء الحِرف اليدوية تأثر بخروج المرأة إلى ميادين العمل، ومشاركتها في العملية الإنتاجية في مختلف القطاعات، ومهمات توفير موارد مالية للبيت، بعد التغيّرات التي طاولت الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للحياة. وهكذا تغيّرت هوية البيت التقليدي، واندثرت المهن اليدوية. كما لا يمكن تجاهل تأثير انتشار المنتجات الصناعية التي نافست الحرف اليدوية، وأزاحتها في مجالات بعد توفير أسعار تنافسية تخدم الكم على حساب النوعية".
وتظل بعض الحرف حاضرة في البيت الجزائري، مثل طحن الدقيق على آلة يدوية صغيرة، حيث تقوم النساء بتدويرها بالتزامن مع رش حبوب قمح او أخرى في فتحة صغيرة، تمهيداً لوضع تحت الحجرة ضمن إناء كبير ليسقط فيه الدقيق المطحون. لكن لوحظ تقلص صناعة الخبز التقليدي في المنازل، حيث باتت غالبية العائلات تعتمد بالكامل على جلب الخبز من الأفران والمخابز، وكذلك صناعة الحلويات التقليدية التي تظهر فقط في المناسبات.

العودة تدريجاً
لكن أستاذ علم الاجتماع في جامعة الوادي عبد الله كافي، يؤكد لـ"العربي الجديد" أن "المهن الحرفية التي ارتبطت حتى زمن غير بعيد بالمرأة، مثلت كمورد اقتصادي لتنمية الأسر أو تغطية بعض احتياجاتها، وعكست ثقافة وحياة المجتمع الجزائري. ورغم التغيّرات التي مست أهمّ ركيزة في أساسها، وهي الأسرة، لكن سيدات كثيرات ما زلن يعتمدن على المهارات اليدوية والخبرات المنزلية الموروثة بهدف تغطية نفقات، وقد دفعت الصعوبات الاجتماعية بعض العائلات إلى العودة تدريجاً الى ممارسة هذه الحرف من أجل تحسين مستوى المعيشة. وهناك قصص وشواهد كثيرة على ذلك في المدن الداخلية، كما أطلقت متخرجات من الجامعات مشاريع حرفية صغيرة لتعليم مهارات الأشغال اليدوية، استعادة للتراث ومواجهة للبطالة".

المساهمون