اختتم تونسيون موسم البحر في مدينة حلق الوادي الواقعة شمالي تونس، أمس الإثنين، من خلال إحياء "خرجة المادونا". ففي هذه المدينة القريبة من العاصمة التونسية، تُعَدّ "المادونا" أي السيّدة العذراء باللغة الإيطالية، رمزاً للتعايش والتسامح بين التونسيين من ديانات مختلفة.
و"خرجة المادونا" التي تُنظّم سنوياً في الخامس عشر من أغسطس/ آب من كلّ عام هي تقليد يقوم على إخراج تمثال للسيدة العذراء من كنيسة "سان أوغوستان" (مار أغسطينوس) والطواف به في شوارع المدينة، كأنّما في الأمر دعوة إلى التسامح بين المواطنين. يُذكر أنّ هذه الفعالية تتزامن مع احتفال مسيحيي العالم بعيد انتقال السيدة العذراء في منتصف شهر أغسطس.
ويشارك سنوياً تونسيون وأجانب في هذه المناسبة، فيحتفلون بداية بقدّاس يُقام في كنيسة "سان أوغوستان" قبل أن يخرجوا بتمثال "المادونا" محمولاً على الأكتاف من قبل رجال دين مسيحيين، وسط زغاريد المواطنين وتراتيل دينية ينشدها المشاركون وهم يشعلون الشموع.
وفي الموعد السنوي لـ"خرجة المادونا " أو "سيدة تراباني" (نسبة للمدينة الإيطالية التي تحمل الاسم نفسه)، تتوافد الأقليات المسيحية من جنسيات مختلفة على الكنيسة من أجل المشاركة في الاحتفال، مع الإشارة إلى أنّ مشاركة المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء صارت أكثر كثافة في السنوات الأخيرة بعد ارتفاع عددهم في تونس.
وفي السابق كانت "خرجة المادونا" خاصة بالمهاجرين من جزيرة صقلية الإيطالية الذين أنشأوا هذا التقليد في تونس وقد حملوه معهم من مدينة تراباني في عام 1853. هم أحضروا حينها تمثالاً للسيدة العذراء وضعوه في كنيسة حلق الوادي ليخرجوه في منتصف أغسطس في تطواف إلى البحر كإعلان لانتهاء موسم الصيف والسباحة ومباركة الرحلات البحرية للجاليات الأوروبية في تونس.
وما زالت مدينة حلق الوادي، بعد أكثر من قرنَين ونصف قرن من هجرة الصقليين إليها، تحافظ على تقليد تطواف المادونا الذي تحوّل لاحقاً إلى مهرجان شعبي يدلّ على تعايش التونسيين من مختلف الديانات في المدينة التي تطلّ منها تونس على المتوسط من خلال أكبر ميناء تجاري في البلاد.
وتبدأ الاحتفالات بـ"خرجة المادونا" قبل تطوافها الشهير في شوارع المدينة، مع توافد المؤمنين المسيحيين إلى كنيسة "سان أوغوستان" ومشاركتهم في قداس خاص، في حين تنتظر الجماهير لحظة خروج تمثال السيدة العذراء لمرافقته في التطواف.
وما زالت مدينة حلق الوادي شاهدة على مرور الإيطاليين، لا سيّما الصقليين منهم، وكذلك المالطيين وغيرهم من حاراتها وأزقّتها التي تحمل حتى الآن تسميات متّصلة بهم والتي تشهد عمارتها على تعدّد الحضارات التي مرّت بها، وحصن القصبة الذي بُني على يد كارلوس الخامس في عام 1535 خير دليل.
في سياق متصل، يقول الباحث في التراث عبد الستار عمامو لـ"العربي الجديد" إنّ "مدينة حلق الوادي مثال حيّ على تعايش الحضارات والأديان التي مرّت بها. فكلّ الذين مرّوا بالمدينة تركوا فيها أثراً، وهو ما يجعلها مميّزة على بقيّة مدن الضاحية الشمالية للعاصمة تونس".
ويرى عمامو أنّ "حلق الوادي تحفظ ذاكرة مرور الإيطاليين والإسبان وكذلك الفتوحات الإسلامية والحركة الوطنية التونسية، وهو ما يفسّر المشاركة الشعبية في احتفالات خرجة المادونا". يضيف أنّ "مطاعمها تأثّرت كذلك بتنوّع الثقافات، الأمر الذي يفسّر انتشار مطاعم إيطالية وأخرى يهودية إلى جانب مطاعم تقدّم أطباقاً تونسية شعبية".
ومن أشكال التعايش التي يرويها عمامو أنّ "المتزوجات الجديدات في مدينة حلق الوادي لم يكنّ يرتدينَ حليهنّ قبل 15 أغسطس، إذ ينتظرنَ خرجة المادونا للتبرّك". وأشار إلى أنّ "خرجة المادونا توقّفت في ستينيات القرن الماضي لأسباب سياسية، فكان المسيحيون يكتفون بالقداس في الكنيسة، وذلك بسبب الفتور بين تونس والفاتيكان. وبعدما استعادها المواطنون تحوّلت إلى أحد الطقوس الشعبية في حلق الوادي" .
تجدر الإشارة إلى أنّ مدينة وميناء حلق الوادي لطالما كانت قبلة الإيطاليين والإسبان المهاجرين من صقلية والأندلس بحثاً عن مناطق آمنة. واليوم، تسكن حلق الوادي جالية كبيرة من الإيطاليين، لدرجة أنّ منطقة سكنهم صارت تلقّب بـ"صقلية الصغيرة". إلى جانب ذلك، تتميّز المدينة بتسامح بين الأديان، إذ تتوزّع فيها الكنس اليهودية والكنائس المسيحية والمساجد الإسلامية.