يهرب الإنسان غالباً من ضوضاء التمدّن الصاخب إلى أماكن يشعر بأنها تمثل شخصيته، سواء على صعيد الشكل أو المغريات التي توفرها، وبينها تلك التي ترسم صورة الماضي الذي يرتاح إليه.
"سطيحة كندة" في مدينة صيدا، جنوب لبنان، مكان يشبه غالبية محبي التراث الذين لا يشعرون براحة كبيرة في ارتياد المقاهي الحديثة. هي ليست مقهى يرتاده محبو المكان فقط لتناول نرجيلة وقهوة وتمضية بعض الوقت في التسلية، بل نقطة التقاء فريدة بين ثقافة الأغاني الطربية القديمة والمأكولات والأغذية المحضّرة من خبز التنور، وموقع الجلسة الجميلة مع المحبين والأصدقاء.
عاشت خلود حاموش، المتحدرة من بلدة العديسة، جنوب لبنان، وتقيم في صيدا، مدة خارج البلاد بعدما عملت مدرّسة لمادة الفلسفة، ثم قررت بخلاف مسار غالبية مواطنيها العودة إلى لبنان خلال أيام ثورة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، حين شعرت بعدم الرغبة في المغادرة مجدداً وأدركت أنه يجب أن تقوم بعمل ما، وتقول لـ"العربي الجديد": "أسست بعد عودتي جمعية ضاد اللغة العربية مع مجموعة من أصدقائي الذين تعاونت معهم في مهمات اجتماعية تتطلب استمرارية عبر رفدها بوسائل دعم. وضم مركز الجمعية سطيحة قررنا أن نستغلها بعمل ما، فأنشأنا مكتبة ثقافية يرتادها طالبو المعرفة، ثم ظهرت فكرة المقهى الذي يجمع الناس لكن بصورة مكان مختلف يتميّز بطابع تراثي يشبهنا، ويعود فيه رواده إلى كل ما هو قديم، مثل الأكل والخبز على التنور ولعب طاولة الزهر...".
سطيحة بيت القرية
وعن سبب تسمية المقهى بـ"سطيحة كندة"، تقول حاموش: "السطيحة تشبه البيت. وتشير التقاليد إلى أنه أمام كل بيت قروي في لبنان كانت توجد سطيحة، أي مكان واسع تجلس فيه العائلة، وتزرع على جانبيه أنواعاً مختلفة من النباتات. أما اسم كندة، فيرمز إلى أول قبيلة عربية دعت إلى القومية العربية".
وتتابع: "يحتاج الجيل الجديد للتعرف إلى تاريخه وعاداته وتراثه، وبينها هدف القضية العربية. وأردنا أن يكون طابع المقهى شرقياً يشبهنا، ويحاكي مجتمعنا والجيل الجديد الذي يتطلع إلى معرفة ثقافته".
وعن النشاط الثقافي في المقهى، توضح حاموش أنه "لدينا كتب ثقافية مختلفة يستطيع القارئ البحث عما يريده فيها. ووضعنا على الجدران صوراً لأدباء وشعراء وفنانين كبار لعكس فكرة استمرار المعرفة بأعمالهم. والموسيقى والأغاني التي يسمعها الحاضرون قديمة وتراثية هادفة، أما الرسومات الموجودة على جدران المكتبة فرسمتها شابة في الـ17 من العمر تدعى هاجر، وتنقل صور العصفور الأزرق غير الموجود إلا في فلسطين".
وتشير إلى أن مؤسسات وأشخاصاً يقيمون ندوات ثقافية وغيرها في المقهى الذي يستضيف أيضاً ورش عمل ثقافية وفنية، وتؤكد أن المقهى "يهدف إلى تعريف الشباب بالثقافة العربية، وأسعاره مدروسة وأرخص من مقاه أخرى إذا أردنا المقارنة بينها".
"أفضل من مقاهي الطابع الغربي"
وبالانتقال إلى رواد المقهى، تتحدث سالي زيدان (23 عاماً)، المتخرجة من جامعة رفيق الحريري وتقيم في مدينة صيدا، عن تجربتها بالقول لـ"العربي الجديد": "علمت بوجود سطيحة كندة عبر موقع فيسبوك، وكنت سعيدة بزيارتي الأولى له، فصرت أقصده للتمتع بمكان يشبهني، ويجعلني أعيش في أجواء التراث العربي القديم والبيت اللبناني في زمن أجدادنا. وقد رافقني أصدقاء مغتربون إلى المقهى وأعجبوا به".
تضيف: "آتي إلى هنا كل يوم تقريباً، لأنني أشعر بأنني موجودة في بيت أهلي، وأعتبر المقهى أفضل من تلك المقاهي ذات الطابع الغربي الذي اندمجنا به سابقاً ما أبعدنا عن تراثنا العربي وعاداتنا وتقاليدنا. أرى أن المقهى فسحة لإعادة إحياء التراث العربي، والعودة إلى البيت اللبناني التقليدي. وأنا أستمع هنا إلى الموسيقى العربية وألعب طاولة الزهر، وآكل الطعام اللبناني الصحّي".
أما دانة اليماني (25 عاماً)، وهي مهندسة ميكانيك تقيم في صيدا، فتقول لـ"العربي الجديد": "قدمت مع مجموعة من أصدقائي للمرة الثانية إلى المقهى، بعدما كنا قد تناولنا عشاءً صحّياً فيه في المرة الأولى. في سطيحة كندة يشعر الشخص بأنه في بيته. الطعام لذيذ ويعكس التراث العربي واللبناني، وأنا أدعو الشباب إلى الابتعاد عن المقاهي ذات الطابع الغربي، والقدوم إلى هنا".
ويقول إبراهيم، المتحدر من مدينة حلب السورية والمقيم في مدينة صيدا، والذي يحضّر خبز التنور في السطيحة، لـ"العربي الجديد": "نقدم في سطيحة كندة خبز التنور وأنواع المأكولات بأسعار مقبولة وأقل من أماكن أخرى. وأنا أشجع الجميع للمجيء إلى السطيحة كي يستمتعوا بالجو العربي التراثي والمأكولات الصحية".