"ماذا تفعلون في عطلة نهاية الأسبوع؟ إلى أين تذهبون؟ تعالوا نرتب مشروعاً، مشاوي وشباب. أين تنوون قضاء العطلة الصيفية؟ أين السهرة اليوم؟ إلى أين السفر في هذه المرة؟". أسئلة بديهيّة اعتياديّة كانت قبل سنوات قليلة تشكل جزءاً من حوارات يومية عادية للبنانيين بمختلف شرائحهم العمرية ومناطق سكنهم. أما اليوم وبعد الأزمة المعيشية الخانقة منذ عام 2019، فبات لسان حالهم: "كم يبلغ ثمن غالون الزيت؟ ماذا سنطبخ لأولادنا؟ أي الأنواع أرخص؟ كيف يمكن أن نحصل على البنزين؟".
تساؤلات وهواجس عدة لا تنتهي، حرمت العديد من اللبنانيين من نمط حياة اعتادوا فيه على التسوّق والسفر، وارتياد المطاعم والمقاهي والأماكن التراثية والسياحية، والإقبال على السهرات والاحتفالات وحجز الفنادق والشاليهات. نمط ينحصر اليوم بمقتدرين فقط، بعدما أطاحت الأزمة بما تبقّى من طبقة وسطى.
قاموس قديم
يسرد هشام كراجي بحسرة كيف اختفت كل مظاهر "الكزدورة" (المشوار) والسهر والاستمتاع بعطلة نهاية الأسبوع، ويقول لـ"العربي الجديد": "بالكاد نستطيع اليوم تأمين الطعام والشراب وأقساط المدارس. أركن سيارتي منذ فترة طويلة ولا أستخدمها إطلاقاً بسبب غلاء سعر الوقود". يضيف: "تغيّرت الحياة كثيراً عن السابق. ومنذ أزمة عام 2019 لم نرفّه عن أنفسنا إلا عبر مشاوير قليلة استطعنا تنفيذها عام 2020 تحديداً، ثم غابت كلمة كزدورة من قاموسنا اليومي، فنحن في أحسن الأحوال نزور بيت أهلي أو أهل زوجتي في المنطقة ذاتها يومي السبت والأحد، لا أكثر ولا أقل".
ويتحدث هشام، وهو أب لولدين في مرحلة الدراسة عن أنه يعمل في مصبغة يملكها والده، ويحاول بقدر استطاعته تأمين معيشة عائلته، سيّما أنّ زوجته لا تعمل، والهموم المعيشيّة تتفاقم.
الحياة "إلى الوراء"
وتختصر هنادي المصري جمّال، وهي أم لابنتين، المعاناة في حياتها اليومية بالقول لـ"العربي الجديد": "لا تتعدّى مشاويرنا إيصال ابنتَيّ إلى المدرسة، والتفكير بعبء تأمين الوقود وكلفته المرتفعة، خصوصاً أنّ كلفة باص المدرسة باتت خارج متناولنا أيضاً". وتروي كيف باتت لا تفكر بالكزدورة أو بأيّة أنشطة للأولاد "فنحن نقصد الكنيسة يوم الأحد فقط، لتأدية واجباتنا الدينية، ونزور أمي أو أخي اللذين يسكنان قربنا".
وتستعيد مرارة الأيام التي ذاقتها مع زوجها لتأسيس عائلة من الصفر، وتقول: "ثابرنا على العمل وتأمين مستلزمات الحياة وتلبية احتياجات ابنتَيّ، ورغم أننا لا نملك منزلاً واضطررنا لتأمين مستحقات الإيجار آخر كلّ شهر، لكننا كنا نستطيع تدبير أمورنا ودفع أقساط المدرسة، ولو بالتقسيط، وبالتالي ادّخار لو قليلا من المال، ما كان يسمح لنا بالخروج في عطلة نهاية الأسبوع".
وتأسف "لعودة الحياة إلى الوراء، لا سيما بعد تظاهرات الاحتجاج والأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا". وتتابع: "لم يعد هناك طبقة وسطى في لبنان، إما طبقة قادرة أو غير قادرة على العيش. فالمشاوير اختفت كلياً أو باتت محدودة جداً، وهمّنا الأساس تأمين قيمة إيجار المنزل وأقساط المدرسة وأدوية والدتي قبل الطعام والشراب".
وتختم: "نكتفي فقط بتنفيذ أنشطة داخل المنزل من رسم وتلوين ومحاولة تسلية ابنتَيّ بما يساعدهما على تنمية الحسّ الإبداعي والتحليلي لديهما. ويمكن أن أخرج برفقتهما إلى الطبيعة عندما تتحسّن الأحوال الجوية للمشي والتمتع بألوان الربيع وقطف الحمّيضة والأعشاب والزهور، أما زيارة أماكن الترفيه والألعاب فباتت من الماضي".
فقط في المنزل
من جهته، يقول رامي ذبيان الذي تزوج منذ فترة وجيزة: "كنّا نسهر ونتنزه، واليوم لم نعد نستطيع ذلك. أصبح كل شيء غالي الثمن. البنزين، المطاعم، الأسواق وغيرها الكثير، لذا نفضل ملازمة المنزل، وأكبر مشوار لا يتعدّى زيارة أهلي أو أهل زوجتي أو الأنسباء المجاورين لنا. حذفنا كلّ الأماكن الأخرى. فالمشوار يكلّفنا اليوم نحو 5 ملايين ليرة لبنانية (208 دولارات، بحسب سعر الصرف الفعلي)، فكيف أستطيع أن أخرج مع زوجتي وراتبي لا يتجاوز 80 دولاراً".
وتخبر ليليان مطر، وهي أم لثلاثة أولاد، "العربي الجديد" أنّ "الطبقة الوسطى انعدمت بالكامل، وبات أيّ مشوار بعيد المنال. وفي حال قرّرنا الخروج، نحرص على حمل سندويشات (شطائر) ومياه من المنزل، حتّى أنّنا أصبحنا نفكّر بهمّ البنزين، وإمكان التزوّد به أو تحمّل كلفته الباهظة، قبل أن ننطلق إلى الوجهة المقصودة".
تضيف: "بات أقلّ مشوار يشكل عبئاً ثقيلاً على جيوب المواطنين. مثلاً دفعت قبل أيام 270 ألف ليرة لبنانية (11 دولاراً) ثمن خمسة صحون من الفول المدمّس، والذي كان حتى الأمس القريب يُعتبر طعام الفقير. كما أصبح فنجان القهوة يُباع بـ 10 آلاف ليرة لبنانية (40 سنتاً)، بعدما كان بـ 500 ليرة (2 سنت). وبالتالي، لم يعد يمكننا تناول الوجبات في الخارج، فالوضع لا يسمح إلا بطعام الفطور أو الغداء أو العشاء، وهذا مرة فقط كل فترة طويلة".
من السفر للترفيه إلى الهجرة
وتؤكد ليليان أنها تفضّل ملازمة المنزل، "فأينما ذهبنا نعيش الهمّ والوجع ذاته، ولا متنفس يخفّف من ضائقتنا، لا سيما مع انتشار جائحة كورونا، وما رافق الأزمة المعيشية من إحباط واكتئاب لدى معظم العائلات اللبنانية".
وعن التسوّق وشراء الملابس الجديدة، تذكر ليليان أنّها اشترت لابنتها "بيجاما" بقيمة 300 ألف ليرة لبنانية (12 دولاراً)، وبالكاد دفعت ثمنها، ثم اختفى بنطلون هذه البيجاما بعد فترة، وتقول: "إنّه فعلاً أمر مضحك مبك، فأقلّ حادثة بسيطة تهزّنا، وتجعلنا نتكبّد وزراً إضافياً". وتختصر الواقع الصعب بعبارة: "كنتُ أفكّر سابقاً بالسياحة والسفر مع عائلتي، لكنّني اليوم أفكّر بالهجرة من لبنان".
وهكذا يستمر اللبنانيون أمام الواقع المعيشي المرير غير المسبوق، في حيرة من أمرهم يشكون قساوة الحياة، وينشدون الأفراح التي سُرقت منهم على غفلة، وجعلتهم يعيشون تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية والصحية المتأزمة، وعتمة الشوارع بلا كهرباء، والخدمات المفقودة التي لا حلّ لها في المدى المنظور.