"خرجنا من فلسطين حفاة الأقدام. وكان الإنكليز يحكمون فلسطين. كنت حينها في الخامسة عشرة من عمري". هكذا استهلّت الحاجة آمنة حسن موعد، التي تعود أصولها إلى بلدة صفورية في قضاء الناصرة، والمقيمة حالياً في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين الواقع شمالي لبنان حديثها. تقول: "بعد وعد بلفور، سلّم البريطانيون فلسطين إلى الحركة الصهيونية، علماً بأنّه كان ثمة يهود يعيشون في فلسطين. ثم بدأت المعارك بين الصهاينة والفلسطينيين، وأذكر أنّ أحد اليهود ألقى قنبلة بين الموجودين. عندها، بدأت المعارك بين الاثنين، ولاحقاً وقعت مجزرة دير ياسين. حينها دبّ الذعر في قلوبنا، إذ لم نكن نملك الأسلحة للدفاع عن أنفسنا، وكنا محكومين من قبل البريطانيين، ولدى خروجهم من فلسطين سلّموا أسلحتهم إلى اليهود".
تُتابع آمنة: "بعد سقوط عكا وحيفا على أيدي الصهاينة، صار أهالي المدينتين يتوجّهون نحو القرى والبلدات الفلسطينية". وتلفت إلى أن صفورية، بمساحتها الكبيرة، كانت تشتهر بالفاكهة وأنواع مختلفة من الخضار وتربية الماشية، وتتذكر الحاجة "دخل علينا الصهاينة وسلبونا كل شيء"، مضيفة أنه عندما دخل الصهاينة إلى البلدة "قال أحدهم لأخي إنهم لن يخرجوا من البلدة قبل أن يقتلونا جميعاً. عندها عاد أخي إلى المنزل وطلب منا الخروج من البيت". وتوضح آمنة أنه "حين خرجنا من المنزل كنا صياماً ولم يكن في حوزتنا رغيف خبز لنأكله. لم نحمل أي شيء معنا. وصلنا إلى منطقة بنت جبيل (جنوبي لبنان) وسكنا في مواقف السيارات، ثم نصبوا لنا خياماً أشبه بعلب السردين. كنّا نغسل وننظّف الأواني ونشرب من مياه بركة كانت موجودة في البلدة".
سكنت آمنة وعائلتها في بنت جبيل مدة ثلاثة أشهر. في تلك الفترة، كان بعض الأشخاص يذهبون إلى فلسطين ليلاً، ويجلبون القمح، ويعودون إلى بنت جبيل. "عشنا الذل. لم نكن حتى نستطيع شراء رغيف خبز لنأكله. ثم تقرّر نقلنا إلى بلدة القرعون (في الجزء الجنوبي من سهل البقاع). كان البرد قارساً، وكنا مضطرين لإحضار القش للتدفئة، وكانت أمي هي التي تذهب لإحضار القش لأن والدي توفي في فلسطين عندما كنت صغيرة، ولم يكن لدينا من يعيننا. كانت أمي تضع القش في أكياس لننام عليها بدلاً من الفرش. وصار الناس، وخصوصاً الأطفال، يموتون من البرد، في ظل انعدام التدفئة".
قرّر أستاذ يعيش في القرعون كتابة رسالة إلى الأمم المتحدة لنقل معاناة الناس، وذكر فيها أن الطعام كان سيئاً وأنه لم يكن لديهم ملابس ولا مال. كُتبت الرسالة باسم أهالي صفورية وأهالي سعسع (تبعد 31 كيلومتراً شمال شرقي مدينة صفد)، وجاء فيها: "نحن لا نستطيع العيش في منطقة البقاع". لذلك، جرى نقلهم إلى مخيم نهر البارد، حيث نُصبت لهم خيام، لكن لم يكن الوقوف في داخلها ممكناً، وعندما تهب الرياح "نركض لإحضار الحجارة وتثبيت الخيمة حتى لا تطير. واجهتنا مشكلة مع قوى الأمن الداخلي التي كانت تمنعنا من إحضار الحجارة وبنائها حول الخيمة بحجة التوطين، فإذا بنينا سنتوطن في لبنان، كما أنهم كانوا يلاحقون الرجال ويمنعونهم من إحضار الحطب".
تقول إنها عاشت وعائلتها في الخيم لمدة اثني عشر عاماً. "شيئاً فشيئاً، صرنا نبني حول الخيمة. كنا نحضر القش ونجبله مع الطين ونضعه حول الخيمة. كما أننا بدأنا ببناء أكواخ من الخشب لنا. بعد ذلك، قدّمت لنا وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) ألواحاً من "الزينكو"، ووضعنا أسقفاً للبيوت الخشبية. في ذلك الوقت، كنت قد تزوجت وأنجبت ستة صبيان وأربع بنات، إلا أن "الزينكو" في أيام الصيف عندما تعكس الشمس أشعتها عليه كانت تحرقنا ناره ونحن في الداخل، كان الكوخ يغلي من شدة الحرارة، وفي فصل الشتاء كانت مياه الأمطار تنهمر علينا من الثقوب الموجودة في السقف، فبدأنا ببناء أسقف من الباطون".
وتشير آمنة إلى أنّه "أثناء عيشنا في الخيم، كانت النساء يعملن، وكنت إحداهن. نذهب إلى السهل لقطاف القطن والزراعة، ولقطاف قصب السكر. كانت المرأة حينها تتقاضى أجراً قدره خمسة قروش. أما الرجال، فكانوا يعملون في المهنة ذاتها، وكان واحدهم يتقاضى ليرة لبنانية واحدة". تضيف "تزوّجت من ابني عمي وأنا في السادسة عشرة من عمري، وكان زوجي يعمل في السهل، وهو من كان يعيلنا. كنا نعرف الأخبار من خلال الراديو الذي كان يملكه، وقد مات قبل بدء معارك مخيم نهر البارد بتسع سنوات. وكان قد كتب على صورته قبل أن يموت: "أريد أن أموت في فلسطين". لكنه مات لاجئاً ولم يعد إلى فلسطين، ويبدو أنني سأموت لاجئة أيضاً. الصورة لم تعد موجودة كما زوجي، فقد تهدّم منزلنا في أحداث مخيم نهر البارد، وخسرنا كل شيء، وعدنا لنبني من جديد".