أدّى تخفيف الصين إجراءات مكافحة فيروس كورونا بداية شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، إلى تفاقم الحالة الوبائية في البلاد وارتفاع حالات الإصابة والوفيات إلى معدلات قياسية. وكانت السلطات الصحية قد حولت تركيزها من اتباع سبل الوقاية إلى التعايش على الطريقة الغربية، بعد موجة من الاحتجاجات الشعبية ضد سياسة صفر كوفيد الحكومية. وتوقفت اللجنة الوطنية للصحة عن إحصاء الحالات التي لا تظهر عليها أعراض، كما تمّ وقف اختبار كورونا الإلزامي على نطاق واسع في معظم المدن الصينية، فيما أُعيد فتح الحانات وصالات الألعاب الرياضية وغيرها من الأماكن الداخلية، واستؤنفت رحلات السفر لتعود الحياة إلى طبيعتها. كما فرضت قواعد عزل مخففة للأشخاص الذين ثبتت إصابتهم بالفيروس، وبات يُمكنهم حجر أنفسهم في المنزل لسبعة أيام على الأقل، ويمكن لأولئك الذين لا يصابون بالحمى ولا يعانون من أعراض شديدة العودة إلى العمل من دون أي اختبار. أما في السابق، فكان يُطلب من المصابين تقديم نتيجة اختبار سالب قبل إطلاق سراحهم من الحجر الصحي بناءً على الإرشادات الوطنية.
هذا التوجه الجديد بعد ثلاث سنوات من التشديد والإجراءات الصارمة زاد من الضغط على موارد الرعاية الصحية وتسبب في نقص الأدوية اللازمة للعلاج، وخصوصاً أن عدداً كبيراً من المواطنين لم يتلق أي لقاح ضد فيروس كورونا، فضلاً عن أن الصين لم تكن تسمح باستخدام لقاحات أجنبية وكانت تعتمد على ثلاثة أنواع من اللقاحات جميعها محلية الصنع.
وكانت العاصمة الصينية بكين قد أعلنت قبل يومين وفاة خمسة أشخاص، لكنها لم تشر إلى سبب الوفاة، وقال مسؤولون في اللجنة الوطنية للصحة إنه لا يمكن إرجاع سبب الوفاة بصورة مباشرة إلى كورونا لأنه ثبت أن الأشخاص الخمسة كانوا يعانون من أمراض مزمنة لها علاقة بأمراض القلب والجهاز التنفسي.
لم تُحدّث الصين قائمة وفيات كورونا التي لم تتجاوز 5241، إلا أن خبراء يعتقدون أن الرقم المعلن لا يمت للواقع بصلة مقارنة بنسبة الوفيات في دول أخرى لديها كثافة سكانية أقل من الصين. كما أن الرأي العام لم يعد يثق بالأرقام والإحصائيات الوطنية المتعلقة بعدد الإصابات، بعدما أوقفت السلطات الاختبارات اليومية التي مثلت على مدار الثلاثة أعوام الماضية مرجعاً أساسياً لرصد وتشخيص حالات الإصابة في البلاد. وحثّت المستشفيات الأطباء والممرضات الذين لا تظهر عليهم أعراض المرض على البقاء في الخدمة للتعامل مع الضغط المشترك للحالات المتزايدة وانتشار العدوى بين العاملين في مجال الرعاية الصحية.
مدينة أشباح
أُصيب يان وان تشونغ، وهو موظف يعمل في مدينة شينزن، بفيروس كورونا وخضع لحجر صحي منزلي. وحين عاد إلى عمله بعد أسبوع، نقل العدوى إلى موظفين آخرين في الشركة. ويقول لـ "العربي الجديد": "لا توجد معايير واضحة في ما يتعلق بإجراءات الوقاية والسلامة. بعد ثلاث سنوات من التدقيق، رفعت القيود بشكل مطلق الأمر الذي تسبب بفوضى عارمة، ولم نعد نميز بين المصابين والأصحاء، وبات انتشار العدوى أسرع من ذي قبل من دون أن يترتب على ذلك أية إجراءات احترازية". يضيف: "خلال أسبوع واحد، أصيب ملايين السكان في المدينة. هناك طوابير طويلة أمام المستشفيات والصيدليات بحثاً عن مخفضات للحرارة. محطات القطار والمترو فارغة. الشركات والمؤسسات لا تعمل إلا بالحد الأدنى. حتى الشوارع والطرقات تبدو فارغة من المارة وتحولت هذه المنطقة التكنولوجية إلى مدينة أشباح بسبب خوف المواطنين وحالة عدم اليقين التي تسيطر عليهم".
من جهتها، تقول لي زي، وهي صاحبة مركز تجميل في مدينة شانغهاي، إنه على الرغم من حالة القلق بشأن تدهور الحالة الوبائية في عموم البلاد، هناك شعور عام بأنه لا بد من المرور في هذه المرحلة قبل الوصول إلى درجة من التعايش مع المرض. تضيف لـ "العربي الجديد": "أصبت وأفراد عائلتي وخضعت لحجر منزلي. وبعد أسبوع، شعرت بتحسن كبير بعد زوال الأعراض. لذلك، أتوقع أنه يمكن لجميع المصابين التماثل للشفاء والعودة إلى ممارسة حياتهم بشكل طبيعي، لكن تبقى هناك خشية على فئة المسنين الذين يعانون من أمراض مزمنة. كما يمكنهم تجاوز الحالة الوبائية والنهوض من جديد على غرار المجتمعات الأخرى".
اعتراف بالفشل
تقول الناشطة الحقوقية المقيمة في هونغ كونغ، شياو لين، إن الحديث عن تحول في استراتيجية الدولة لمكافحة فيروس كورونا هو مجرد تعبير تجميلي للاعتراف بالفشل وعدم فعالية السياسة المتشددة التي اتبعتها السلطات على مدار السنوات الماضية. وتوضح في حديثها لـ "العربي الجديد": "على الرغم من الكوارث المترتبة على هذا التحول المفاجئ، فإن ما يبعث على الاطمئنان هو حقيقة أن الحزب الشيوعي أظهر مرونة واستجابة غير مسبوقة تحت الضغوط الشعبية". وتوضح أنّ أحد أسباب حالة عدم اليقين هو عدم وصول الصين إلى مناعة القطيع قبل اتخاذ خطوة من هذا النوع. ولأن السكان يفتقرون إلى المناعة التي تراكمت لدى الشعوب الأخرى خلال السنوات الماضية، فسيكونون عرضة لموجات جديدة من العدوى بحسب تحورات الفيروس". تضيف: "في مدن كبيرة مثل العاصمة بكين التي كانت تطبق حتى وقت قريب أكثر إجراءات الرقابة صرامة في الصين، بما في ذلك حظر الدخول والخروج عبر الحدود، تجد نفسها اليوم في طليعة موجة غير مسبوقة من الإصابات التي تجتاح البلاد".
وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد صرحت قبل أيام بأن العالم يشعر بقلق بالغ إزاء تأثير الوباء على الصين، وتأمل أن تتمكن بكين من الاستجابة له بشكل صحيح. وفي ردها على ذلك، تقول المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ، إنه منذ تفشي الوباء قبل ما يقرب من ثلاث سنوات، تمسكت الحكومة الصينية بمبدأ إعطاء الأولوية لحياة الناس، وصاغت سياسات للوقاية من الوباء لتلبية مصالح الشعب. تضيف أن الصين تعمل باستمرار على تحسين استجابة كوفيد لتحقيق التوازن بين الوقاية من الوباء والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ليس عبثاً
يقول الباحث في معهد الدراسات والعلوم الإنسانية بمقاطعة فوجيان تشين يونغ، في حديث لـ "العربي الجديد"، إن استجابة السلطات الصينية للحالة الوبائية خضعت لتعديلات تدريجية، وأن القرارات التي اتخذت على مدار الفترة الماضية جاءت بناء على أسس علمية دقيقة تتوافق مع وضع البلاد لناحية كثافة السكان وعدد المسنين ونسبة اللقاحات. يضيف أنه خلال سنوات حرجة ضرب فيها الوباء كافة المدن والمناطق، شهدت الصين استمرار عمليات التلقيح وخلْق فرص لتحسين الوقاية من الفيروس، وقد ساهم ذلك في تجنيب البلاد أعداداً كبيرة من الوفيات وكوارث الموت التي مرت بها المجتمعات الغربية. ويلفت إلى أن قصة الكفاح والمعارك التي خاضتها الأطقم والكوادر الطبية لم تكن عبثاً، والشعب الصيني يدرك ذلك، وخصوصاً أن الفيروس بات أقل فتكاً مقارنة بالحالة التي كان عليها في أيامه الأولى. يتابع: "مع ذلك، لا تزال وسائل إعلام غربية تهاجم الصين وتنشر تقارير مغلوطة عن الحالة الوبائية، وذلك مدفوع بأجندات سياسية"، لافتاً إلى أن الجهات التي هاجمت سياسة صفر كوفيد، هي نفسها التي تهاجم اليوم رفع القيود وتخفيف الإجراءات.
يشار إلى أن وسائل إعلام رسمية صينية، أفردت مساحة كبيرة للحديث عن التحول الذي تشهده البلاد، وقالت إنه يمثل ظاهرة صحية، ومن خلال الجهود المنسقة، سيبدأ الشعب الصيني في مرحلة جديدة من التنمية الاقتصادية والاجتماعية المطردة والمنظمة. كما أفادت بأن الصين ستخرج من ظل كوفيد بأمان، ولن تحدث كارثة تسونامي المميت التي شوهدت في الدول الغربية.