تتكرر شكاوى سكان المناطق والمدن في ليبيا من شحّ مياه الشرب، في وقت تتعهد السلطات كل مرة بمعالجة الأزمة، لكن من دون توفير خطط حقيقية وحاسمة. وأخيراً، تجددت شكاوى مواطني مدينة سرت (وسط)، وذلك بعد عام من إعلان حل مشكلة المياه فيها، وتراجع كميات المياه التي تصل إلى عدد من أحيائها، ومنها الغريبات، والسبعة، والثلاثين.
وفيما تعتمد غالبية مدن الشمال الليبي على كميات مياه الشرب التي توفرها شبكات منظومة النهر الصناعي من خلال أنابيب تمتد مسافات طويلة، يقول ميلاد الخطري الذي يسكن في سرت لـ"العربي الجديد": "تراجعت بشكل كبير كميات مياه الشرب القادمة عبر أنابيب النهر الصناعي، والمسؤولون يبررون ذلك بكثرة الاعتداءات على الأنابيب الرئيسية لضخ المياه من خلال توصيلات غير شرعية، يقف خلفها بالدرجة الأولى أصحاب مزارع يتعمدون جرّ المياه الى أراضيهم باستخدام هذه الوسيلة غير الشرعية". يضيف: "حالياً، يشتري غالبية سكان أحياء سرت مياه الشرب، والتجار لا يترددون في استغلال الأزمة ورفع الأسعار التي أصبحت خيالية، ما حتم تقديم الناس شكاوى إلى السلطات المحلية".
واللافت أن فرع الشركة العامة للمياه والصرف الصحي في مدينة سرت أكد، في بيان أصدره، توفر مياه الشرب، لكنه طالب المواطنين بترشيد وتقنين الاستهلاك داخل المدينة أو الأودية حيث تنتشر المزارع. وأشار إلى أنه بحث مع البلدية وسائل إيجاد حلول لمشاكل البنى التحتية لشبكات المياه، وذلك بالتنسيق مع إدارة النهر الصناعي، مقترحاً تشييد خزانات كبيرة داخل الأحياء من أجل جمع المياه تمهيداً لضخها إلى المنازل.
ويشيد الخطري بجهود شركة المياه التي بدأت فعلاً في بناء خزانات في بعض الأحياء، لكنه يرى أن هذه الإجراءات "مؤقتة ومقصرّة وغير شاملة، إذ تدرك البلدية جيداً أن المزارعين يقفون وراء التعديات على خطوط نقل مياه النهر الصناعي، لكنها لا تردعهم ولا تتصدى لمخالفاتهم الواضحة على الأرض، بل تشغل المواطنين بحلول مؤقتة مثل بناء خزانات ستعاني بدورها من مشكلة بطء تعبئتها بكميات مناسبة من المياه، أما قرارها الخاص بملاحقة تجار المياه وضبط أسعار صهاريج نقل المياه فيعني أنها تعترف بأن ظاهرة شراء المياه لن تنتهي". ويلفت إلى أن "الحلول الحقيقية تتمثل في استكمال المشاريع التي توقفت لأسباب مختلفة، ومنها محطات التحلية. وقد توقف مشروع لتشييد محطة تحلية في سرت منذ سنوات من دون أن يعرف أحد السبب، رغم أنه يساهم في حل أكثر من نصف مشكلة المياه".
ولا تنحصر أزمة شح المياه في مدينة سرت، فغالبية مناطق الشمال تواجه نقصاً حاداً في مياه الشرب بسبب تهالك شبكات أنابيب النهر الصناعي، وانعدام القدرة على توصيل المياه كما في مناطق الجبل الغربي، أو توقف محطات تحلية المياه، وإحداها في مدينة طبرق (شرق).
والعام الماضي، عانى عدد من مناطق الجبل الغربي مدة عشرة أشهر من عدم وصول المياه، قبل أن تعود بشكل جزئي في أغسطس/ آب الماضي. وبرر مسؤولو منظومة النهر الصناعي توقف المياه بتهالك المضخات وأنابيب النقل. وفي مارس/ آذار الماضي، أعلن البنك الأفريقي للتنمية أن "ليبيا تملك 105 أمتار مكعبة سنوياً للفرد الواحد من المياه المتجددة، وهذا المستوى هو الثامن الأدنى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا".
ودعا البنك الأفريقي السلطات الليبية إلى الإسراع في ضبط سياسات المياه في البلاد، ووضع استراتيجيات طويلة الأمد للمياه، لكن الجانب الليبي لم يتجاوب مع هذا الطلب إلا من خلال تصريحات أدلى بها عضو المجلس الرئاسي موسى الكوني، الذي دعا إلى التفكير في كيفية استثمار مياه حوض غدامس الذي يقع شمال غربي ليبيا، وتمتد أجزاء منه إلى داخل الأراضي التونسية والجزائرية. واقرّ الكوني، في كلمة ألقاها خلال قمة الأمم المتحدة حول حسن إدارة الموارد المائية نهاية مارس/ آذار الماضي، بأن "منظومة النهر الصناعي لم تحلّ مشكلة المياه في ليبيا، بل أثّرت في وضع المياه في مناطق الجنوب، ما يحتم العودة إلى ضخ المياه بشكل عكسي من الشمال عبر تحلية مياه البحر، بعدما انخفض منسوب المياه الجوفية في الجنوب بشكل كبير".
ويرى خبراء أن أزمة مياه الشرب التي تعاني منها ليبيا ليست أزمة ندرة، بل ترتبط بسياسات السلطة وسوء الإدارة. ويشيرون إلى أن مشاريع تحلية المياه لم تجد الاهتمام الكافي من السلطات، ما ساهم في توقف أو زوال بعضها بالتزامن مع تزايد الاحتياجات.