مرّت ثلاثة أسابيع على مقتل عمّة وجدة توغتشي سيرين غول في مدينة أنطاكيا، بالزلزال المدمّر الذي ضرب جنوبي تركيا. ومع ذلك، ما زالت الشابة تعاني وهي تحاول النوم، فهي تبقى صاحية يومياً حتى الساعة 4.17 فجراً بالتوقيت المحلي.
عندما وقع الزلزال، تمكّنت توغتشي، البالغة من العمر 28 عاماً، من الهرب من المنزل مع والدتها، قبل لحظات من انهيار جدرانه، وتقول لوكالة رويترز: "ما زلت أفكّر في أنّ كارثة أخرى سوف تقع في مثل ذلك الوقت، وأنتظر حتى يمرّ". ففي فجر يوم الإثنين في السادس من فبراير/ شباط الجاري، وصلت الشابة إلى الشارع حافية القدمَين، لترى هناك جثث الجيران الذين قُتلوا من جرّاء الانهيارات التي حصلت، وتتذّكر صرخات المحاصرين في المباني المنهارة.
وترى توغتشي أنّ الرعب تسبّب في أزمات نفسية عميقة لدى الناجين، هؤلاء الذين "فقدوا كلّ شيء" في مدينة أنطاكيا التي دمّرها الزلزال. ولا تخفي الشابة أنّها سوف تطلب في يوم ما مساعدةً متخصّصةً للتعافي من الصدمة التي أُصيبت بها، لكنّ الأولوية الوحيدة بالنسبة إليها هي العمل على ترتيب "حياة جديدة" لها ولأسرتها.
والزلزال الذي يُعَدّ الأكثر فتكاً في تاريخ تركيا الحديث سوف يكون له تأثير نفسي عميق، بحسب ما تقدّر جهات مختلفة وخبراء. فقد لقي أكثر من 44.300 شخص حتفهم في البلاد وتشرّد أكثر من 1.5 مليون شخص من جرّاء الكارثة الطبيعية، وسط أحوال جوية شديدة البرودة. كما فقد الملايين أفراداً من أسرهم ووظائفهم ومدّخراتهم وممتلكاتهم وآمالهم في المستقبل.
الأطفال في خطر
يخشى خبراء من أن يكون الأطفال الأكثر تضرّراً من الزلزال وتبعاته. وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، فإنّ كثيرين من بين 5.4 ملايين طفل يعيشون في منطقة الزلزال عرضة لخطر الإصابة بالقلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة. وقد صرّحت المديرة الإقليمية ليونيسف في أوروبا وآسيا الوسطى أفشان خان، بعد زيارة لتركيا: "نحن نعلم مدى أهميّة التعلّم والروتين للأطفال وتعافيهم" ممّا عاشوه، وتضيف أنّهم "في حاجة إلى أن يكونوا قادرين على استئناف عملية تعلّمهم"، مشدّدة على أنّهم "في حاجة ماسة إلى الدعم النفسي كما الاجتماعي ليتمكّنوا من التعامل مع الصدمة التي تعرّضوا لها".
وفي مخيّم كبير للنازحين بجوار استاد هاتاي على مشارف مدينة أنطاكيا، أقامت فرق للدعم النفسي والاجتماعي نقاطاً صغيرة للترفيه ونصبت فيها خياماً مليئة بالألعاب. ويخبر محمد ساري، الذي يعمل في مجال الدعم النفسي والاجتماعي في إطار الفرق الرسمية، أنّه مع آخرين في فريقه رصدوا علامات صدمة لدى الأطفال، يضيف متحدثاً لوكالة رويترز: "نرى أنّ ثمّة أطفالاً لا يستطيعون النوم، وبعضاً منهم لا يأكلون، وآخرين يستعيدون ذكريات ما حدث ويعانون من تبوّل لاإرادي في خلال نومهم"، ويشدّد على أنّهم "يحتاجون إلى دعم طويل الأمد للتعافي من الصدمة".
وفي هذا الإطار، أفادت وزارة الأسرة والخدمات الاجتماعية التركية بأنّها أرسلت أكثر من 3.700 عامل اجتماعي لدعم الناجين في منطقة الزلزال. وارتدى متطوعون من مجموعة "سوكاك ساناتلاري أتوليسي" للفنون، في إزمير، أزياء سوبرمان ومهرّجين وقدّموا أنشطة للأطفال الذين يعيشون في مخيّم لإيواء منكوبي الزلزال بإقليم هاتاي (جنوب). لكنّ زلزالاً كبيراً بلغت قوّته 6.4 درجات على مقياس ريختر ضرب الجهود المبذولة لمنح الأطفال شعوراً ولو بسيطاً بأنّ الحياة تعود إلى طبيعتها وسط الهزّات الارتدادية المستمرّة منذ وقوع زلزال السادس من فبراير.
توتّر مزمن مستمر
في سياق متصل، تقول المتخصصة في علم النفس والأستاذة في جامعة "إم إي إف" التركية عائشة بيلج سلجوق إنّ الشعب التركي يعاني في الأساس من ضغط كبير نتيجة تزايد الفقر وتأثير أزمن كورونا الوبائية، وقد أتى الزلزال أخيراً لينقله إلى المستوى التالي، تضيف متحدثة لوكالة رويترز أنّ "التوتّر مزمن ومستمرّ، وهو الآن يتجاوز المستوى الذي يمكننا تحمّله. ولكي تتمكّن هذه الأمّة من النهوض، نحتاج إلى العثور على القوة في داخلنا، والأمر يبدأ بحالتنا النفسية".
وقد تعهّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإعادة بناء المنازل التي دمّرها الزلزال أو ألحق الأضرار بها، في غضون عام، لكنّ الأمر سوف يستغرق أشهراً عدّة قبل أن يتمكّن الآلاف من ترك الخيام أو حاويات الشحن أو الطوابير اليومية للحصول على الطعام والانتقال إلى مساكن دائمة. وعملية الانتقال هذه تُعَدّ أساسية للشعور باستعادة الحياة الطبيعية والأمان الذي فقدوه.
وتشير سلجوق إلى أنّ الناس يبدون مخدّرين، وهذا الأمر "يمثّل على الأرجح آلية دفاعية للتعامل مع الإجهاد الذي لا يمكن التغلّب عليه"، تتابع أنّه "من المرجّح أيضاً أن ينتشر القلق والعجز والاكتئاب، وقد يشعر الشباب بالغضب". وتشدّد سلجوق على "وجوب أن تشمل جهود إعادة البناء الصحة النفسية"، وتحثّ الحكومة على "توفير التمويل للمتخصصين في علم النفس المدرّبين لإرسالهم إلى المنطقة التي ضربها الزلزال والبقاء فيها"، وتكمل أنّ "الاستدامة هي المفتاح، ولا ينبغي أن نحوّل انتباهنا بعيداً (عن ذلك) بعد ثلاثة أشهر".
(رويترز)