تسببت موجة الجفاف القائمة في أنحاء المملكة المتحدة، والتي تتزامن مع ارتفاع قياسي لدرجات الحرارة، في أزمة متفاقمة تتجلى في اختفاء مياه الشرب المعبأة من المتاجر.
تواصلت موجة الحر الأخيرة لخمسة أيام، وتجاوزت الحرارة خلالها 34 درجة مئوية، بينما وصلت درجة الحرارة في موجة سابقة استمرت لثلاثة أيام إلى 40 درجة مئوية، وساهم ذلك في انتشار العديد من الصور الجوية التي تحول فيها اللون الأخضر بتدرّجاته المعتادة إلى لون أصفر يشي بالعطش، وذلك بالتزامن مع إعلان الحكومة حالة جفاف في ثماني مناطق تمتدّ على مساحات واسعة من إنكلترا.
لم يعتد سكان المملكة المتحدة على مشاهدة صور جوية غير خضراء، فليست بلادهم أرض نزاعات، وليست أيضاً موطن زلازل أو أعاصير، والثراء التاريخي والطبيعي لها يفرض صوراً من المتاحف والحدائق والأزقة القديمة، وليس من السماء.
لم يكن مستغرباً أن يتسبّب إعلان الحكومة عن الجفاف بحالة من الذعر العام التي دفعت ملايين البريطانيين إلى شراء كميات كبيرة من عبوات المياه لتخزينها، خاصة وأن بعض مناطق الجنوب شهدت انقطاعات متكرّرة في مياه الشرب خلال موجة الحرّ الأخيرة، بينما فرض أكبر مزوّد للمياه في المملكة المتحدة "تيمز ووتر" حظراً على استخدام الخراطيم لري الحدائق وتنظيف السيارات وملء أحواض السباحة في العاصمة لندن.
حظر مماثل فرضته شركة ساوثرن ووتر على المناطق الأكثر تضرّراً في جنوب شرق إنكلترا خلال شهر يوليو/ تموز، والذي كان الأكثر جفافاً على الإطلاق منذ عام 1911، بينما وصلت إلى هواتف ملايين البريطانيين رسائل تحذيرية من زيادة الطلب على المياه، وبالتالي احتمال مواجهة أعطال في التدفق.
ولا تقتصر أسباب الخوف من أزمة مياه في بريطانيا على انخفاض معدّل الأمطار، أو الهدر الكبير، وغياب استراتيجية للتعامل معها فقط، بل أيضاً على نقص مخزون شركات المياه المعبّأة، إذ بات مشهد الخواء في الرفوف المخصّصة لبيع المياه مشهداً مألوفاً.
ويعود النقص الكبير إلى أسباب عدة، منها جائحة كوفيد-19 التي لم تتعافَ البلاد منها بعد، والفجوة الكبيرة بين زيادة الطلب والأيدي العاملة المتوفرة، فضلاً عن تداعيات الخروج من الاتحاد الأوروبي التي تشمل اختفاء، أو ندرة كثير من السلع العابرة للحدود، ومنها المياه، وتضاعف أسعارها بسبب ضريبة القيمة المضافة.
وتتزامن أزمة المياه مع أزمة معيشية خانقة، وارتفاع غير مسبوق في فواتير الطاقة، وتضخم قياسي، وتحذيرات من ركود، فضلاً عن نقص كبير تشهده قطاعات حيوية منها القطاع الصحي. كما أنها تتزامن مع السباق إلى رئاسة الحكومة عبر زعامة حزب المحافظين الحاكم.
وليس نقاش التغيّر المناخي ومخاطر الجفاف في المملكة المتحدة أمرا جديدا، فقبل أربع سنوات، طالب مكتب الإحصاءات التابع للجنة الوطنية للبنية التحتية بضرورة العمل على استثمارات جديدة في إمدادات المياه. إلا أن غياب استراتيجية وطنية لإدارة الموارد المائية أدّى إلى استمرار تسرّب أكثر من 3 مليارات لتر من المياه يومياً.
والاتهامات لا تشمل الحكومة وحدها، إذ تتحمل شركات المياه جزءاً من المسؤولية، خاصة بشأن التسرّب في نظام الأنابيب الذي يؤدي إلى الهدر، وإلى عرقلة حركة المرور، وحرمان آلاف المنازل من المياه لأيام في بعض الأحيان.
وأجرت الحكومة اجتماعات كثيرة خلال الشهرين الماضيين لبحث سبل مواجهة تداعيات موجات الحر، وما تسبّبت به من جفاف، ومن حرائق في مناطق عدة. لكن في المحصلة، لم تردع تلك المباحثات توسع الجفاف، وزيادة شح المياه، ولم تنقذ حدائق لندن من اليباس.
تقول مديرة الاتصالات في مؤسسة ريفرز تراست البيئية، كريستين كولفن، لـ"العربي الجديد"، إن مؤسستها كانت مشاركة في اجتماعات الحكومة البريطانية، وإنه "في أزمة الجفاف الأخيرة تتقاسم الحكومة المسؤولية مع شركات المياه لأنهم لم يأخذوا تحذيرات علماء المناخ على محمل الجد".
وتحذّر من أزمات جفاف مماثلة في المستقبل، إذ إن "المناخ المتطرّف قد يصبح أمراً واقعاً خلال السنوات الخمسين المقبلة". وتشير كولفن إلى أن "نسبة التسرّب في المياه بلغت 20 في المائة، وهي نسبة مرتفعة جداً، وشركات المياه متّهمة بالبطء في المبادرة إلى علاج المشكلة، وبيع الأوهام عبر الاستمرار في الاعتماد على البيئة الطبيعية لسدّ النقص، وتكمن المشكلة في اعتماد الحكومة على خطط شركات المياه، في حين يبدو واضحاً أن تلك الخطط ليست كافية لحماية الأمن القومي، كما لا تمتلك الحكومة التخطيط الملائم لمواجهة جفاف هائل لأننا لم نشهد ذلك سابقاً، على الرغم من تنبّؤات العلماء بمستقبل مناخي مختلف عما عرفته المملكة المتحدة تاريخياً".
تتابع أنّ "شركات المياه، وكذلك الحكومات المتعاقبة، لم تكن جادة بما يكفي لإدراك التنبّؤات والمخاوف المناخية، ما أدّى إلى خسائر فادحة تمثّلت في فقدان المملكة المتحدة لنحو 90 في المائة من الأراضي الرطبة، وبالتالي تراجع قدرتها على الاحتفاظ بالمياه الجوفية".
ووفقاً لخبراء ومختصّين، فإنّ الاقتصاد في المياه الذي يجري الحديث عنه مؤخراً، لن تلجأ إليه الحكومة إلّا كملاذ أخير بعد استنفاد حملات التوعية، وحظر استخدام خراطيم المياه. لكنّ المشكلة تكمن في غياب الخطط المناخية عن الحملتين الانتخابيتين لوزيرة الخارجية ليز تراس ووزير المالية المستقيل ريشي سوناك، كما كانت غائبة في عهد الحكومات السابقة.