تُعدّ مدن جنوب ليبيا مهدّدة بأزمة مياه شرب وشيكة، بعد تزايد نضوب المياه الجوفية، التي تعتمد عليها البلاد لتزويد مدن الشمال بمياه الشرب عبر مشروع النهر الصناعي العظيم، الذي ينقل المياه من الجنوب إلى الشمال عبر آلاف الأميال من الأنابيب الضخمة. وتنبهت السلطة الجديدة في ليبيا إلى خطورة الأزمة، وعقدت وزارة الموارد المائية بحكومة الوحدة الوطنية اجتماعاً نهاية مارس/ آذار الماضي، لمناقشة "شحّ المياه في مناطق الجنوب الليبي".
وشارك في الاجتماع أعضاء من مجلس النواب عن مناطق الجنوب الليبي وعمداء بعض البلديات كالغريفة وتراغن وأدري، وكلّها مناطق تقع في الجنوب، والهدف هو "رفع المعاناة عن كاهل المواطنين". يقول فضيل اقدير وهو من من بلدة تراغن جنوب البلاد، إن هذه الاجتماعات لا تتجاوز شاشات التلفاز وصفحات الأخبار. ويؤكد، خلال حديثه لـ "العربي الجديد"، أن المياه الجوفية في مناطق الجنوب كانت لا تتجاوز الـ 25 متراً قبل عشرين عاماً، مشيراً إلى أنها تراجعت بشكل كبير في جوف الأرض بسبب عمليات الاستنزاف الكبيرة بواسطة أنابيب النهر الصناعي العظيم. ويضيف اقدير، الذي يدير مشروعاً زراعياً خاصاً، إنّ "منطقتي أصبحت كالغربال. كما انتشرت آبار المياه بشكل واسع لحلّ مشكلة المياه في الشمال على حساب حياتنا ومزارعنا".
وتُعدّ ليبيا ضمن الدول المصنّفة تحت خط الفقر المائي، وتُشير بعض التقارير إلى أنّ نصيب الفرد في ليبيا لا يتجاوز 120 متراً مكعباً في العام، في حين أنّ حدّ الفقر العالمي يقدر بـ 500 متر مكعب سنوياً، الأمر الذي يستغربه اقدير. ويسأل: "كيف يكون الرقم متدنياً مع ما نراه من ضخ واستنزاف من الجنوب الذي يعيش على خزانات جوفية ضخمة؟".
ويلفت المسؤول بإدارة التخطيط والمتابعة بالهيئة العامة للمياه الحكومية، عبد الحفيظ التومي، إلى أنّ الخطط الموضوعة في البلاد لا تقوم على حل بعيد للأزمة، بل تعتمد على مصادر مياه غير مستدامة ومهددة بالنفاذ، ما يجعلها ضمن البلدان المصنفة في إطار خط الفقر المائي. يضيف، خلال حديثه لـ "العربي الجديد"، أن "تقارير أكاديمية أثبتت أن منسوب المياه الجنوبية يتراجع سنوياً بنحو ثلاثة أمتار".
في عام 1984، دشنت ليبيا مشروع النهر الصناعي العظيم، لنقل المياه العذبة عبر أنابيب ضخمة مدفونة في الأرض، يبلغ قطر كل منها أربعة أمتار، وطوله سبعة أمتار، لتشكل في مجموعها نهراً صناعياً بطول تجاوز في مراحله الأولى أربعة آلاف كيلومتر، تمتدّ من حقول آبار واحات الكفرة والسرير في الجنوب الشرقي، وحقول آبار حوض فزان وجبل الحساونة في الجنوب الغربي، لتصل جميع المدن التي يتجمع فيها السكان. وكان الهدف نقل أكثر من ستة ملايين متر مكعب من المياه للشرب بالإضافة إلى الزراعة والصناعة. ويقول التومي إنّ الكمية التي تنقل سنوياً تتجاوز 250 مليون متر مكعب من المياه، موضحاً أن "الحاجة في مدن الشمال من المياه تزيد عن ضعف هذا الرقم بثلاث مرات سنوياً".
ويوضح التومي أن الكميات المنقولة لم تحلّ مشكلة المياه في الشمال، وخلقت في الوقت نفسه أزمة في الجنوب. يضيف: "الخطر سيكون أكبر على الجنوب، إذ يمكن خلق بدائل في الشمال أهمها نشر محطات تحلية مياه البحر". ويذكر أنّه استناداً إلى التقارير التي أعدّتها الهيئة العامة للمياه، فإنّ البلاد تملك تنوّعاً في مصادر المياه الطبيعية، لكنّها تعتمد على المياه الجوفية بنسبة تصل إلى أكثر من 90 في المائة. ويشير إلى أنّ في البلاد عددا من السدود الكبيرة التي يمكنها جمع أكثر من ستين مليون متر مكعب سنوياً من مياه الأمطار، بالإضافة إلى انتشار عدد كبير من محطات تحلية المياه عبر مدن الساحل، لكنه يؤكد أن غالبيتها معطل عن العمل. وما بقي منها أصبح متهالكاً بسبب الإهمال والاعتماد الكلي على مياه النهر الصناعي.
بالإضافة للحاجة إلى مياه الشرب، يلفت اقدير إلى أن التهديد يطاول مصادر رزق أهل القرى والواحات في الجنوب، مشيراً إلى أن وادي الآجال الذي يمتد لـ 150 كيلومترا، ويشمل عشرات القرى ويعيش أهلها على الزراعة التي بدأ نشاطها يتراجع بشكل كبير. ويقول: "تعطّلت مشاريع كبيرة كانت ترعاها الدولة مثل مشروع القراية في وادي الآجال الزراعي الذي يوفر عدداً من الوظائف لأهل المنطقة".
من جهته، يلفت التومي إلى أهمية بحث الجهات الحكومية عن مصادر بديلة تخفف من وطأة الاعتماد على المياه الجوفية. ويقول إنه يمكن اللجوء أيضاً إلى التكنولوجيا التي تمكنت من الحصول على المياه من الهواء في قمم الجبال، وخصوصاً أن البلاد تتمتع بسلاسل جبلية. ويطالب اقدير باقتراحات عملية وقريبة من إمكانيات البلاد مثل العودة للاعتماد على تحلية مياه البحر من خلال تنشيط المحطات المنتشرة على طول مدن الساحل كحل لرفع المعاناة وتجاوز أزمة عطش يراها وشيكة.