يمثّل "مشروع لينكولنشاير للأطباء اللاجئين" في المملكة المتحدة فرصة لعدد من الذين بلغوها بعدما تركوا أوطانهم الأصليّة حاملين معهم شهاداتهم العلمية وخبراتهم العملية، ثمّ راحوا يبحثون عن فرص أفضل.
"في عام 2017، عدتُ إلى سورية لتعديل شهادتي التي حصلت عليها من جامعة عين شمس المصرية في القاهرة والحصول على ترخيص مزاولة مهنة كطبيب. وفي العام التالي، بدأتُ دراستي في تخصّص الجراحة العامة في دمشق، لكنّني اضطررتُ بعد مدة بسيطة إلى مغادرة البلد بسبب مشاكل أمنية. أتى ذلك بعد زواجي بثلاثة أشهر". هكذا يبدأ الطبيب براء (31 عاماً)، من درعا، في الجنوب السوري، حديثه إلى "العربي الجديد". يضيف براء، وقد فضّل عدم كشف هويته كاملة: "وصلتُ إلى المملكة المتحدة في أغسطس/ آب من عام 2019، ولم أحصل على حقّ في الإقامة إلا بعد نحو سبعة أشهر، علماً أنّه لم يكن يحقّ لي أن أمارس أيّ عمل في خلال تلك الفترة. وبعد ذلك مباشرة، رحتُ أبحث عن جمعيات تساعد الأطباء اللاجئين للحصول على إذن مزاولة المهنة في المملكة المتحدة. وبالفعل وجدت عدداً منها ووصلتني ردود إيجابية، لكنّني اخترتُ مشروع لينكولنشاير للأطباء اللاجئين، إذ وجدتُ فيه نقاطاً أكثر إيجابية وتتناسب مع وضعي، من قبيل تأمين السكن لي ولزوجتي التي وصلت قبل خمسة أشهر تقريباً، فضلاً عن توفير كلّ ما أحتاجه من مستلزمات". ويتابع براء أنّ "تعديل شهادة الطب في المملكة المتحدة يتطلب ثلاث خطوات؛ الأولى امتحان مستوى اللغة الإنكليزية والثانية امتحان نظري في الطب والثالثة امتحان عملي فيه. وأنا حالياً في خطوتي الثانية". ويؤكد براء أنّه "بصراحة، لم أجد اختلافاً كبيراً بين ما درسته في مصر أو سورية وبين ما أراه هنا، لكنّ ثمّة غزارة أكبر في المعلومات المطلوب منّا معرفتها. وهنا تختلف التوجيهات الطبية، وهذا ما أجد فيه نوعاً من الصعوبة، من قبيل كيفية التعامل مع المراهقين والفئات العمرية المختلفة". ويشير براء إلى أنّه بدأ العمل قبل خمسة أشهر تقريباً في مستشفى الأميرة ديانا في لينكولنشاير (شرق إنكلترا)، كمساعد طبيب على الرغم من عدم حصوله على ترخيص كامل بعد. وهو عملياً يعالج المرضى، إنّما بصلاحيات محدودة وبإشراف الطبيب الاستشاري.
من جهته، يقول الطبيب خليل (30 عاماً)، وهو من أكراد القامشلي في شمال شرقي سورية: "أنا جاهز للعمل، لكنّ ثمّة عقبات كثيرة ولا تتوفّر أيّ مساعدات أو مراعاة لظروفنا كأطباء في الحصول على حقّ الإقامة في مدّة معقولة". ولا يخفي خليل، الذي يفضّل استخدام اسم مستعار لأسباب أمنية، أنّه يعيش في ما يشبه "حرباً نفسية منذ عام تقريباً، وأستغرب تعطيل ملفّي في وزارة الداخلية، في حين يحتاج البلد إلى مزيد من الأطباء بسبب أزمة كورونا". يضيف أنّه في الوقت الحالي يدرس طوال الوقت ويحضر مؤتمرات لكنّه في قلق دائم، في حين لا يحقّ له تقديم أيّ امتحان إلا بعد حصوله على حقّ الإقامة. لكنّه يبدو سعيداً لانضمامه إلى مشروع لينكولنشاير والدعم الذي يتلقاه. بالنسبة إليه، فإنّ "المشروع ممتاز للأطباء اللاجئين، ولا يتوفّر في المملكة المتحدة أي مشروع مماثل. وقد شهدتُ بنفسي كيف يعاني أطباء لاجئون كثر بعد أعوام من وجودهم هنا ويخسرون سنوات طويلة قبل أن يحصلوا على إذن مزاولة المهنة". ويلفت خليل إلى "منظمات أخرى تدّعي مساعدة الأطباء اللاجئين، لكنّها لا تقدّم الدعم المطلوب على أرض الواقع".
ومن المعلوم أنّه مع استمرار النزاعات في بلدان مثل سورية والعراق، لجأت أعداد كبيرة من العاملين في مجال الرعاية الصحية من ذوي المهارات العالية إلى بلدان مختلفة، منها المملكة المتحدة. ومن بين هؤلاء أطباء مدربون كثر. ففي عام 2016، احتفظت مبادرة الأطباء اللاجئين التابعة للجمعية الطبية البريطانية بتفاصيل تسجيل 560 من الأطباء الذين كانوا لاجئين أو طالبي لجوء، علماً أنّ عددهم تزايد ما بين 15 و30 في كلّ فصل من العام، حتى وصل تقريباً إلى نحو 680 في عام 2020.
وعلى الرغم من أنّ المملكة المتحدة تسجّل أقلّ معدّلات أطباء في أوروبا، إذ يتوفّر طبيب واحد لكلّ 10 آلاف نسمة، وهو أمر يجعلها تعاني، فإنّ الجهات المتخصصة والحكومية في البلاد لم تلتفت حتى اليوم بما يكفي إلى كيفية الاستفادة من كفاءات الأطباء اللاجئين وطالبي اللجوء، باستثناء مشاريع معدودة انطلقت لدعمهم وتأهيلهم بهدف استثمار كفاءاتهم في المجتمع. ولعلّ أبرزها "مشروع لينكولنشاير للأطباء اللاجئين"، الذي أنشأه الطبيب المتقاعد أندرو موات في عام 2016، بالتعاون مع الجمعية الطبية البريطانية وجمعيات خيرية بريطانية. يهدف هذا المشروع إلى توفير الدعم وتوظيف الأطباء اللاجئين، فضلاً عن المساعدة في معالجة النقص في أطباء خدمة الصحة الوطنية في المنطقة. ويسعى كذلك إلى رفع مستوى وعي صناديق خدمة الصحة الوطنية بأهمية الاستفادة من تلك الموارد والمواهب المتوفّرة في المملكة المتحدة، والتي تُهدَر بسبب عدم تلقّي هؤلاء الأطباء الدعم الكافي لممارسة عملهم مع المجلس الطبي العام. ويسهّل المشروع وصول الأطباء اللاجئين إلى العمل في العيادات الحكومية والمستشفيات، علماً أنّ هذه العملية تستغرق في المتوسط نحو عامَين ونصف عام.
وتوضح روث إنغاميلز، وهي مديرة العمليات في "مشروع لينكولنشاير للأطباء اللاجئين"، قائلة: "نحن ندعم الأطباء في كلّ ما يحتاجونه، بدءاً من توفير السكن والمفروشات والأدوات التكنولوجية من قبيل الحواسيب وغيرها. ونساعدهم في تقديم امتحان اللغة الإنكليزية والامتحانات الطبية، وهو ما يعني أنّنا نؤهّلهم للتسجيل لدى المستشار الطبي العام والعثور على عمل. كذلك نساعدهم في تجاوز أيّ عقبة قد تمنعهم من التأهل لممارسة الطب في هذه البلاد". وتلفت إنغاميلز، متحدثة لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ هؤلاء "لا يحتاجون إلى تعليمهم الطب لأنّهم أطباء مؤهلون. لكنّ المشروع يعلّمهم كيف يزاولون مهنة الطب في المملكة المتحدة". وتكمل إنغاميلز أنّ "المشروع يتيح الفرصة كذلك أمام طالبي اللجوء من الأطباء للانضمام إلى برامجنا عن بُعد، بدلاً من هدر وقتهم وتركهم ينتظرون موافقة وزارة الداخلية للحصول على حقّ الإقامة في البلاد".
وتحاول إنغاميلز تعريف المجتمع في مقاطعة لينكولنشاير باختصار، فتقول إنّها "تكتظ بالبريطانيين البيض الذين يبدون استهجانهم عندما يسمعون عن المشروع، ويتساءلون باستنكار: هل سيأخذ اللاجئون وظائفنا؟". وتشرح أنّ "كلمة لاجئ تثير نوعاً من التمييز ضدّ أصحابها، وهو ما يثير غضبي. لذلك، عندما نبحث عن سكن للأطباء اللاجئين، نحاول إيجاد أمكنة مناسبة لهم لا يتعرّضون فيها إلى التمييز".
تجدر الإشارة إلى أنّ المشروع يؤكد أنّ تمكين الأطباء اللاجئين يوفّر تكاليف جمّة قد يتطلبها تدريب أيّ طبيب بريطاني. فكلفة تدريب طبيب جديد في المملكة المتحدة تتطلب 300 ألف جنيه إسترليني (نحو 420 ألف دولار أميركي)، فيما تبلغ الكلفة الإجمالية لتدريب طبيب لاجئ للعمل في خدمة الصحة الوطنية 25 ألف جنيه (نحو 34 ألفاً و800 دولار)، أي نحو 12 في المائة فقط من كلفة تدريب طبيب بريطاني جديد. يُذكر أنّ منظمة الصحة العالمية تتوقّع عجزاً عالمياً قدره 18 مليوناً من العاملين الصحيين، بحلول عام 2030.
في سياق متصل، يقول الدكتور آدم كوتس، من قسم علم الاجتماع في جامعة كامبريدج البريطانية، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الهجرة الجماعية المستمرة للعمال ذوي المهارات العالية من سورية والعراق وشمال أفريقيا، تؤثّر على قدرة منظمات الإغاثة والحكومات على تقديم المساعدة الإنسانية". يضيف أنّ "العاملين السوريين في مجال الرعاية الصحية، كما هي الحال مع مهنيين مهاجرين آخرين، هم قوة عاملة متعلمة وذات مهارات عالية، ولتجاربهم آثار سياسية واقتصادية وإنسانية وأكاديمية مهمة"، لافتاً إلى أنّ "عدم استخدام مهارات آلاف المهنيين الصحيين المؤهلين يُعَدّ هدراً كبيراً، وكثر منهم يجدون أنفسهم مستبعدين من فرص العمل الرسمية وينزلقون إلى الفقر في المجتمعات المضيفة في الشرق الأوسط وأوروبا". ويوضح كوتس، الذي أخرج شريطاً مصوّراً عن الأطباء اللاجئين، أنّ "الفيلم يروي قصص نجاح عدد من هؤلاء. ومع مزيد من الدعم من قبل برامج من قبيل برنامج لينكولنشاير، يستطيع أطباء آخرون العودة إلى مزاولة مهنتهم بسرعة وفعالية". ويرى كوتس أنّ "دمج الأطباء اللاجئين يجب أن يكون أولوية سياسية في دول مثل المملكة المتحدة"، مشدّداً على أنّ "الخدمات الصحية فيها وفي كلّ أوروبا بحاجة إلى هؤلاء الأشخاص".