"لقد غرق قاربنا! نصف القارب فقط لا يزال طافياً"، هكذا صرخت سيتيرا بيغوم، بينما كانت العاصفة تهدد بغرقها برفقة 180 آخرين في البحر، جنوب بنغلاديش، خلال فرارهم من مخيمات اللاجئين الروهينغيا، كانت الساعة 10:59 مساء يوم السابع من ديسمبر/كانون الأول بالتوقيت المحلي عندما تلقى زوجها محمد راشد اتصالاً من زوجته على بعد مئات الأميال في ماليزيا.
راشد الذي لم يلتق عائلته منذ أحد عشر عاماً، علم قبل أيام فقط أن سيتيرا وابنتيه تمكنّ من الفرار من العنف المتصاعد في مخيمات اللاجئين الروهينغيا في بنغلاديش، لكنه الآن يخشى أن تكلف محاولة عائلته الهرب الثمن نفسه الذي كانوا يحاولون إنقاذ أرواحهم منه، وعلى الرغم من مناشدات سيتيرا فإنها لم تتلق أي مساعدة لها أو للأطفال والحوامل الذين كانوا على متن القارب أيضاً.
استمع راشد إلى صوت زوجته المرتعد وهو في حالة من الرعب.. "الأمواج ستغرقنا، هناك عاصفة ستغرق القارب"، هكذا قالت سيتيرا باكية عبر الهاتف، ثم انقطع الاتصال.
حاول راشد معاودة الاتصال، رن هاتف القمر الصناعي على متن القارب، ولكن لم يرد أحد، كرر المحاولة أكثر من مائة مرة، لكن النتيجة واحدة: لا أحد يرد.
في أقصى جنوب البر الرئيسي لبنغلاديش، هناك شاطئ تجتاحه الرياح وتحده من الشرق الغابات والجبال ومن الغرب خليج البنغال، يبدو الشاطئ رمادياً قاحلاً، لكن هناك عدداً قليلاً من قوارب الصيد الخشبية، وجيش من السرطانات الحمراء الزاهية التي تختبئ في الحفر عندما يقترب أي إنسان.
من هنا بدأ القارب الصغير رحلته.
الروهينغيا أقلية بلا جنسية
عانت أقلية الروهينغيا المسلمة التي لا تحمل أي جنسية عقوداً من الاضطهاد في موطنها، ميانمار، ولطالما نظرت إليها الأغلبية البوذية هناك على أنها فئة متطفلة.
فر نحو مليون شخص منهم عبر الحدود إلى بنغلاديش ليجدوا أنفسهم محاصرين لسنوات في مخيمات بائسة، ومحتجزين رهائن بسبب سياسات الهجرة التي لا تمنحهم أي مخرج، وهكذا شقوا طريقهم في البحر، ضمن محاولة للوصول إلى مكان ما آمن، أي مكان، كانت محاولاتهم بمثابة مقامرة "حياة أو موت".
حاول أكثر من 3500 من الروهينغيا عبور خليج البنغال وبحر أندامان في 2022، بزيادة قدرها 360 بالمائة مقارنة بالعام السابق، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة التي من شبه المؤكد أنها أقل من العدد الفعلي. وتوفي أو فقد ما لا يقل عن 348 شخصاً، وهو أكبر عدد للقتلى منذ 2014.
إنقاذ تلك الأرواح يكاد يكون أمراً مستحيلاً، لأنه ببساطة ليس هناك من يسعى إلى ذلك، بل يصل الأمر غالباً للتخلي عن الروهينغيا، وتركهم يموتون غرقاً في البحر، كما هو الحال تماماً في البر.
وتقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إنه حتى عندما كان المسؤولون يعرفون مواقع القوارب المأزومة في الأشهر الماضية، فقد قوبلت مناشداتها المتكررة للسلطات البحرية لإنقاذها "بالتجاهل".
وفي حين تنص القوانين الدولية على إنقاذ القوارب والسفن المعرضة للخطر، إلا أن تنفيذ ذلك صعب.
تقول كريس ليوا، مديرة منظمة (مشروع أراكان) الإنسانية التي تراقب أزمة الروهينغيا، إن الدول الساحلية في المنطقة كانت تبحث عن القوارب المتعثرة في الماضي لدفعها إلى مناطق البحث والإنقاذ لدى البلدان الأخرى، ونادراً ما تكلف نفسها عناء الإنقاذ.
ينقل المحظوظون منهم في نهاية المطاف إلى الشاطئ الإندونيسي بواسطة صيادين محليين، لكن حتى عمليات الإنقاذ تلك قد تكون محفوفًة بالمخاطر، فعلى سبيل المثال عثرت شركة نفط فيتنامية على قارب، ثم سلمت ركابه من الروهينغيا فوراً إلى حكومة ميانمار، التي كانوا قد فروا منها للتو.
وتقوم سلطات ميانمار بدوريات من أجل منع مهاجري الروهينغيا من الفرار.
ويقول جون كوينلي، مدير منظمة (فورتيفاي رايتس) الحقوقية "لا يوجد سبب يمنع حكومات المنطقة من تنسيق وإنقاذ هذه القوارب"، مضيفاً "هناك افتقار تام للإرادة السياسية والرحمة. المساءلة والعبء يقعان على عاتق الجميع".
الفرار من الإبادة إلى المجهول
أسباب هروب الروهينغيا ظاهرة على وجوه اللاجئين الشاحبة الهزيلة، وفي عيونهم الغائرة، وأكتافهم المنحنية.
لم يعد هناك أي أمل في مخيمات اللاجئين ببنغلاديش منذ فترة طويلة، وأصبح اللاجئون يشعرون بالحزن والخوف.
هؤلاء أناس لا يتوقعون تحسن أحوالهم، وغالباً ما يزداد وضعهم سوءاً.
فر معظم الروهينغيا إلى هذه المخيمات مما وصفته الولايات المتحدة بأنها "إبادة جماعية" في ميانمار عام 2017.
ومع ذلك شاعت في السنوات الماضية، وخلال وضح النهار، عمليات القتل الوحشية على يد عصابات وجماعات مسلحة متحاربة، كما تشيع الحرائق التي يكون بعضهاً متعمداً، ففي مارس الماضي نشب حريق، وقال المحققون إن مجرمين أشعلوه، ما تسبب في تدمير آلاف الملاجئ وأصبح 15 ألف شخص بلا مأوى.
حالة الخوف يضاعفها الجوع، فالروهينغيا ممنوعون من العمل، والحصص الغذائية انخفضت كمياتها بسبب تراجع التبرعات العالمية، في الوقت نفسه جعل الانقلاب العسكري في ميانمار عام 2021 أي عودة آمنة إلى الوطن "حلماً بعيد المنال"
معاناة في أكواخ من الخيزران
تبرز من بين غبار وأوساخ مخيم (نايابارا) في بنغلاديش أكواخ متكدسة من الخيزران والقنب والقصدير في ممرات عدة، هذا المكان المهترئ يدعى (بلوك إتش) للاجئين، كانت تعيش فيه سيتيرا و64 من ركاب القارب المنكوب، وبينهم القبطان جمال حسين.
أمضى العديد من السكان حياتهم هنا بعد فرارهم من ميانمار خلال موجات العنف السابقة، وأصبحت ملاجئهم تحت الجبال التي حرقتها الشمس، وتوجد عصابات دموية في مكان قريب منهم.
كان جمال خائفاً على حياته، كما تقول شقيقته، بلبل، باكية "كان قطعة من قلبي"، مضيفة "تلقى جمال تهديدات بالقتل مؤخراً، فبدأ في التخطيط للخروج من هنا".
اشترى جمال قارباً والتقط مقطعاً مصوراً له برفقة الركاب المحتملين، تظهر قارباً خشبياً يبدو أصغر من أن يحمل 180 شخصاً، ويبحر بهم بأمان لمسافة 1800 كيلومتر إلى إندونيسيا.
وداخل ملجأ قريب من منزل جمال، كان والد سيتيرا، عبد الشكور، يحمل صورة لابنته، بشفتين ممتلئتين وعينين واسعتين مثل والدتها، يقول عنها: "كانت أجمل امرأة في عائلتنا".
لم يسمع عبد الشكور أي شخص يقول كلمة سيئة عن سيتيرا من قبل، فهي أم حنون ومحبوبة، يقول عنها "نادراً ما اشتكت على الرغم من تربية بناتها بمفردها وسط بؤس المخيمات منذ عام 2012. في هذا العام هرب زوجها راشد إلى ماليزيا لإعالة أسرته بالأجور التي كان يرسلها من عمله في مطعم".
ويضيف عبد الشكور أن هذه الأموال جعلت العائلة مطمعاً أيضاً، حينها بدأت سيتيرا تخشى على حياتهم. خاصة بعدما خطف أفراد عصابة ابن شقيق سيتيرا، 4 سنوات، قبل عامين وأخذوه إلى الجبال، كما يقول عبد الشكور.
ويضيف "احتجزوه هناك لستة أيام، وقاموا بتخديره لإبقائه هادئاً، دفعت الأسرة في النهاية فدية قدرها 300 ألف تاكا (2800 دولار) لاستعادته، وهذا مبلغ ضخم".
ذهبت سيتيرا في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي إلى والدها، وطلبت منه يأذن لها بالصعود على متن قارب جمال برفقة ابنتيها، 18 و15 عاماً. كانت ابنتها الكبرى متزوجة وقررت البقاء في المخيمات.
وفي ملجأ قريب، كانت هناك عائلة أخرى تعاني ويلات العذاب، حيث اجتهد ابن عم القبطان جمال، محمد أيوب، لمنع ابنته، سميرة، وطفليها من الصعود على متن القارب، لكن صهره، كبير أحمد، كان حازماً في موقفه، خاصة بعدما تعرّض للضرب بقضيب حديدي على يد قرويين، خارج المخيم، ما تسبب في شعوره بالخوف دائماً.
وقال أحمد لصهره: "الوضع ليس آمناً هنا. هناك أشخاص يقتلون كل يوم. إذا منعتني من المغادرة، فلن أزورك بعد الآن"، وهكذا عانق أيوب ابنته وصهره مودعاً دون أن ينطق بكلمة، ثم عانق حفيديه بلهفة بعد أن شعر بالقلق.
كان جسده كله يؤلمه وهو يشاهدهم يغادرون، قائلاً: "كانوا أحبائي الوحيدين".
الاتصال قبل الأخير
في ساعة متأخرة من ليل الأول من ديسمبر/كانون الأول 2022 وحتى حوالي الساعة الرابعة صباح اليوم التالي، اتصل عدد كبير من ركاب "قارب جمال" بأفراد عائلاتهم القلقين، عندها فقط أخبرت سيتيرا زوجها بأنها وابنتيه في الطريق إليه.
كيف تحطم القارب؟
أفضل من يخبرنا بما حدث للقارب هم لاجئون كانوا على متن قارب آخر انطلق إلى إندونيسيا بعد يوم واحد.
كان على متن هذا القارب 104 أشخاص، على رأسهم رجل يدعى كفاية الله، يقول كفاية الله إنه بعد وقت من بدء رحلته، رصد قارباً متوقفاً من بعيد، أدرك أنه قارب جمال، وأنه في ورطة.
قال جمال إن محركه به بعض المشكلات، استعار بعض الأسلاك الكهربائية من قارب كفاية الله، ثم عمل على إصلاح العطل.
عندما انتهى جمال من إصلاح المحرك، انطلق من جديد وتبعه كفاية الله، لكن بعد أربعة أيام، انفتحت السماء، وهبت عاصفة قوية، وتحطم القاربان وسط أمواج متلاطمة.
في هذا الوقت أجرت سيتيرا مكالمتها الأخيرة مع راشد، والتي استمرت 44 ثانية، قالت "قاربنا يغرق، نصفه فقط لا يزال طافياً! أرجوك صلّ من أجلنا، وأخبر والدي بما حدث!".
هنا سألها راشد "أين أنت؟"، ردت "نحن على وشك الوصول إلى إندونيسيا"، قالت سيتيرا لشخص آخر على متن القارب، قبل أن ترد على زوجها، "من فضلك قل لي اسم المكان الذي نحن فيه. نعم، نحن في الهند. الرجاء محاولة إرسال ...".
سألها راشد "هل أنتم في الهند؟".
لكنه سمع جملة صعقته "لقد أغرقت الأمواج القارب، لقد أغرقت العاصفة القارب!".
ثم انقطع الاتصال، وبدأ راشد في الدعاء.
في غضون ساعات انتشر تسجيل استغاثة سيتيرا في أنحاء مخيم (بلوك إتش)، وبدأت عائلات الركاب في الصراخ والعويل، كان الناجون الوحيدون المعروفون في تلك الليلة هم كفاية الله وركاب قاربه.
(أسوشييتد برس)