أجلس وأسرتي بمقهى في مدينة "الوكرة" على الساحل الشرقي الجنوبي لدولة قطر، لمتابعة مباراة السنغال وقطر. يتقاذف اللاعبون الكرة، بينما تقذفني أمواج الذكريات إلى مونديال عام 1990، حينما كانت تضمني وأخوتي غرفة صغيرة، بمدينة الإسكندرية على ساحل مصر الشمالي، وتلفاز في الزاوية نتزاحم عليه نحن وأولاد خالتي.
عشر سنوات كانت كل ما أملكه من سنين عمري حينها، حديث عهد بالكرة، قادم من الخليج حيث كان يعمل والدي، لأمكث بضعة أسابيع في زيارة سنوية إلى مصر، أتقنت خلالها الصراخ كما الكبار مع كل هجمة مرتدة، أو فرصة ضائعة.
كانت المرة الثانية لمنتخب مصر في المونديال بعد حرمان امتد لـ 56 عاماً. شوارع الإسكندرية التي لا تهدأ يخيّم عليها السكون مع كل صافرة بداية، غير أن "اللعبة الحلوة" كانت تجعل من "منشية النزهة" حيث نقيم، وكأنها غرفة واحدة تتشابك فيها الأصوات القادمة من الطرقات والشرفات المتقابلة. صرخات ما زالت، رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود، تذيب ذكراها فواصل الزمن، وتداوي بعضاً من ندوب غربتنا.
أرتكن إلى مقعدي، وألمح زوجتي تتعجب من اهتمامي الكروي المفاجئ، أتابع "الرحلة"، كرة مونديال قطر 2022، وهي تأخذني عبر الزمن. أحدّث نفسي وأستعيد شيئاً من ذكرياتي العابرة، فتتلقفني ركلات الكرة بعيداً إلى شوارع الإسكندرية، وفرن "العم وحيد" أسفل بيت خالتي، حيث يجتمع الخبازون من أبناء محافظة سوهاج، حول جهاز الراديو لمتابعة مونديال 1990.
أعود إلى مونديال قطر وتقنيات التصوير الحديثة وأجهزة الاستشعار وتقنية الفار مبتسماً وأنا أتذكّر مونديال 1990، وانتقالي من مشاهدة المباريات عبر الشاشة الصغيرة التي لم تكن تفارقها شارات ضعف البث أو اهتزاز الهوائي، وأتذكّر كذلك اصطفافي مع العشرات على جانبي شارع "سقراط" لمشاهدة إحدى منافسات دوري الشوارع للكرة "الشراب" التي كانت تصنع من كرة بلاستيكية توضع في جورب وتلف بالخيط والغراء. حينها كان لكلّ حي أبطاله، مثلما كان لكلّ زمان رجاله.
تتشابه رغبتي في فوز فريقي على الشاشة أو في الطرقات، سواء كنت ابن الأعوام العشرة أو رجلاً تجاوز الأربعين، غير أني كنت أشجع كما الكبار، وها أنا الآن في الأربعينات أنتقي المعارك، وأتفاعل بقدر مع الأحداث. أتفرّج على صغيريّ يقلدان تفاعلنا وترقبنا ورغبتنا في حصد انتصار عربي، ليقتنصا فرصة حصد المزيد من "غزل البنات"، فلكلّ منا معاركه وانتصاراته التي توافق سنّه وزمنه.
كان دييغو مارادونا البطل دوماً بالنسبة لنا، أقراني وأنا. دموعه التي حصدتها خسارة الأرجنتين في نهائي مونديال 1990 لم تغير من ذلك شيئاً، كما لم يفقده الرحيل لقب "الأسطورة"، مثله كمثل الإسكندرية التي لم أفقد شيئاً من شوقي لها رغم ابتعادها عني. غير أنّ العم وحيد قد رحل وباع مخبزه، وخالتي أصبحت وحيدة، ولم يعد للكرة "الشراب" أنصار، وأصبحت أختار فريقي حيثما دارت كرة العرب، أو حملها امتدادي الأفريقي.
أبحث كما صغيريّ في مونديال قطر عن انتصار يعيد لنا شيئاً من نشوة الفرح، فتكون الإجابة مغربية تعزفها كتيبة المدرب وليد الركراكي، ويحرسها ياسين بونو ورفاقه حكيمي وزياش وامرابط. أضع نجمة مغربية على صدري، وأرى حلماً ينتقل إلى الواقع. شيءٌ ما في تأهّل المغرب إلى المربع الذهبي من المونديال يخبرني أننا ما زلنا نقدر، وما زالت للعرب نجوم تضيء، ويقترب زمانها. ليهتف داخلي مردداً بكلمات فخري البارودي الخالدة:
بلاد العُربِ أوطاني/ من الشامِ لبغدانِ
ومن نجدٍ إلى يمنٍ/ إلى مِصرَ فتطوانِ
فـلا حـدٌّ يباعدُنا/ ولا ديـنٌ يفـرّقنا
لسان الضَّادِ يجمعُنا.