البلدة القديمة في نابلس تتزّين لرمضان.. وتفتقد الشهداء
تبدو البلدة القديمة في نابلس، شمالي الضفة الغربية، في اليوم الأوّل من رمضان، مصرّة على إحياء أجواء الشهر الفضيل، على الرغم من كلّ الآلام التي عاشتها في الأشهر القليلة الماضية ووداعها نحو أربعين شهيداً، معظمهم من مجموعة "عرين الأسود".
وكدليل على الصمود، اجتهد شبّانها في تزيين حارات نابلس وأزقّتها بالأضواء الملوّنة والفوانيس، في محاولة لإدخال البهجة والسرور إلى قلوب أهلها وزائريها الذين يقصدونها من كلّ حدب وصوب.
يقول أسامة حرز الله، وهو شقيق الشهيد محمد حرز الله، أحد قادة "عرين الأسود"، لـ"العربي الجديد"، إنّ "نابلس وبلدتها القديمة نزفتا كثيراً مذ بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي عملياتها الإجرامية باغتيال المقاومين". ويضيف: "كانت وما زالت أياما صعبة لن تُنسى، لكنّ الشعب الفلسطيني، كطائر الفينيق الذي يخرج منتصراً من تحت الركام، قادر على تجاوز الأوجاع والتفوّق على أحزانه والإقبال على الحياة. لذلك نحن نوظّف كلّ مناسبة وطنية وإسلامية لزرع الفرحة، ولو كانت منقوصة".
ويتابع حرز الله أنّ "وصيّة أخي ومن سبقه ومن تبعه من الشهداء كانت السير على دربهم في صون نابلس وحماية البلدة القديمة والدفاع عنهما. ونحن نطبّق تلك الوصايا حرفياً، لذلك سوف تبقى نابلس درعاً حصينا غير قابل للكسر، ولا يكون ذلك إلا من خلال إبقاء بلدتها القديمة، التي تملك تاريخاً عريقاً يعود إلى آلاف السنين، قبلة للزائرين ومقصداً لكلّ المحبين. ولا يكون ذلك إلا بالاهتمام بها وتزيينها وحثّ المواطنين على زيارتها، خصوصاً في الشهر الكريم".
ويوضح حرز الله أنّ أخاه الشهيد ورفاقه اعتادوا في كلّ رمضان على "إيلاء البلدة القديمة اهتماماً خاصاً، فينظّفونها ويزيلون التعديات ويطلون الجدران ويمدّون أسلاك الزينة الضوئية (...)، وهذا ما نفعله حتى نسير على دربهم، ونؤكّد أنّهم وإن غابوا جسداً إلا أنّ أثرهم سوف يبقى حاضراً".
ومنذ يوم الجمعة الماضي، شرع أهالي البلدة القديمة في نابلس بالتعاون مع المؤسسات الخدماتية، مثل بلدية نابلس والغرفة التجارية وملتقى رجال الأعمال وجامعة النجاح وغيرها، بحملة لتنظيف البلدة القديمة وغسل طرقاتها. وبعد ذلك، عمدت شركة كهرباء الشمال، ومقرّها نابلس، إلى مدّ الأسلاك الكهربائية وتعليق الأضواء الملونة لتكون جاهزة في ليالي رمضان.
في هذا الإطار، يقول الناشط أنور محروم، لـ"العربي الجديد"، إنّ "هذا المشهد يتكرّر في كلّ عام في الأيام التي تسبق رمضان، لكنّ الحسّ الوطني المقاوم يطغى هذه المرّة"، مشيراً إلى أنّ "كثيرين ممّن ارتقوا برصاص الاحتلال الإسرائيلي في الأشهر الماضية كانوا يشاركوننا في أعمال التزيين والتنظيف".
ويضيف محروم: "لا أريد ذكر اسم ونسيان آخر، لكنّ الذين حملوا السلاح في وجه الاحتلال وقدّموا أرواحهم في سبيل الوطن كانوا متطوّعين منذ صغرهم في مختلف الأعمال التي من شأنها أن تظهر بلدهم في أبهى حلّة، سواء من خلال الأعمال التطوعية كتنظيف الشوارع أو توزيع الطرود الغذائية للمعوزين أو غيرها من المهام. وعندما طلبهم الوطن لصدّ عدوان الاحتلال لم يتوانوا لحظة عن ذلك".
ويلفت محروم إلى برنامج متميّز يضمّ أمسيات وفعاليات "السوق نازل"، وهي عادة مستمرّة منذ عشرات الأعوام، وتُعرَف بها نابلس، فتتميّز عن غيرها من المدن. ويتابع: "لكنّ الظروف السياسية والميدانية قد تفرض نفسها بقوة، فلا يمكن أن نحيي سهرات رمضانية والدماء تسيل".
من جهته، أحمد القطب، صاحب محل حلويات (تحديداً القطائف) في البلدة القديمة، عمل على تهيئة الماكينات وصيانتها واستقدام مزيد من اليد الماهرة والعاملة استعداداً لشهر رمضان. ويقول القطب لـ"العربي الجديد" إنّ "الحياة تختلف في رمضان عن غيره من الأشهر، فهو شهر الخيرات والبركات، ويتضاعف فيه كذلك الإقبال على القطايف التي تُعَدّ الحلوى الرئيسية على موائد الصائمين في فلسطين، لذلك نستعدّ جيداً لهذا الموسم".
ويلفت القطب إلى أنّ "الأسعار ارتفعت حتى قبل بدء رمضان، الأمر الذي قد يدفع بعض الناس إلى عدم شراء كامل الاحتياجات المطلوبة".
وليس بعيداً عن أحمد قطب، كان غازي صالح يصل الليل بالنهار لوضع اللمسات الأخيرة على مطعمه الشعبي من أجل افتتاحه في أوّل أيام شهر رمضان. وصالح يصنع الحمص والفلافل بالإضافة إلى أنواع من المشروبات الرمضانية، مثل التمرهندي والخروب والليمون.
ويقول الرجل الخمسيني لـ"العربي الجديد" إنّه ينتظر رمضان "على أحرّ من الجمر، لزيادة جهدي في العبادات والطاعات، وكذلك للتكسّب الحلال من خلال بيع المأكولات والمشروبات الخاصة برمضان".
لكنّ القطب وصالح يتّفقان على أنّ رمضان يحلّ هذا العام حزيناً، فعشرات العائلات سوف تفتقد أبناءها الشهداء أو الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، لكنّ الفرحة بحلوله تبقى قائمة.
في سياق متصل، عمدت مها عيد (اسم مستعار)، وهي صاحبة مطبخ بيتي مشهور، إلى توفير وجبات إفطار مجانية في اليوم الأوّل من شهر رمضان لذوي الشهداء من أبناء قريتها والبلدات المجاورة، في محاولة للتضامن مع قضيتهم وتخفيفاً عنهم. وتقول لـ"العربي الجديد" إنّ "قلوبنا انفطرت على الذين قدّموا أرواحهم في سبيل الوطن، وما يواسينا أنّهم في جنّات النعيم. لكنّ الحسرة تسكن عائلاتهم الذين سيفتقدونهم على مائدة الإفطار، وأنا لا أملك ما أقدّمه لهؤلاء إلا وجبة متكاملة لكلّ عائلة، أسأل الله من خلالها الرحمة للشهداء والمواساة لذويهم".