التبرع بالدم... قطرات إنسانية تصنع عجائب عظيمة لمرضى

14 يونيو 2022
حملة للتبرّع بالدم في متحف بشيكاغو (سكوت أولسن/ Getty)
+ الخط -

"يحتاج العالم إلى قدرٍ كافٍ من الدم الآمن"، "يحتاج شخص في مكان ما إلى دم كل بضع ثوان"، "تنقذ خدمات نقل الدم ومنتجات الدم أرواح ملايين سنوياً"... نماذج من الرسائل القصيرة والمناشدات التي تبثها منظمة الصحة العالمية في 14 يونيو/ حزيران سنوياً، اليوم العالمي لعمليات التبرع بالدم التي تحفظ حياة وعافية العديد من الفئات، مثل النساء المصابات بنزيف مرتبط بالحمل والولادة، والأطفال المصابين بفقر دم بسبب الملاريا وسوء التغذية، والمرضى المصابين باضطرابات في الدم والعظام والهيموغلوبين وحالات العوز المناعي، والأشخاص الذين يواجهون حالات طوارئ وكوارث وحوادث، ومرضى يخضعون لعمليات طبية وجراحية. 
في مارس/ آذار 2020، حذر تقرير أصدرته منظمة الصحة العالمية من أن إمدادات الدم ستتأثر بشكل كبير بتراجع أنشطة التبرع بالدم مع تفشي فيروس كورونا، ثم ذكر تقرير آخر أن مسألة التبرّع مهمة لتوفير مشتقات ذات صلاحية قصيرة، مثل صفائح الدم التي يجب توفير إمدادات دائمة منها لمرضى تعتمد حياتهم عليها، كما طالب باعتماد استراتيجية اتصال استباقية لتخفيف قلق المتبرعين الذي ينتج عادة من نقص في الوعي أو تلقي معلومات مضللة أو الخوف من الإصابة بعدوى أثناء التبرّع بالدم. وشددت المنظمة بالتالي على ضرورة تنظيم حملات توعية عامة فعّالة ومستمرة في شأن أهمية الحفاظ على مخزون وطني كافٍ من إمدادات الدم، وسلامة عملية التبرع بالدم، والحاجة إلى متبرعين. 

الخدمة العظيمة الأولى
يحفظ التاريخ الخدمة العظيمة التي قدمها الطبيب البريطاني ريتشارد لوار للبشرية حين قام عام 1665 بعملية نقل دم من كلب إلى آخر وأنقذ حياته. وتكررت عمليات نقل الدم الناجحة بين الحيوانات، ما ألهم الطبيب الفرنسي جان باتيست دينيس خوض تجربة نقل كمية قليلة من دم خروف إلى شاب مريض في 15 يونيو/ حزيران 1667، والذي تعافى، فنفذ جان باتيست محاولات أخرى لم تكن كلها ناجحة، إذ توفي مريض بعد نقل دم عجل إليه، فاتهم الطبيب الفرنسي بالقتل غير المتعمد، ثم جرت تبرئته بعد إدانة زوجة المريض بقتله عبر وضع الزرنيخ في الحساء. لكن هذه التبرئة لم تمنع تجريم عمليات نقل الدم في فرنسا ثم بريطانيا، ما أوقف الأبحاث المعلنة في المجال زمناً طويلاً، لكن أطباء واصلوا تكرار محاولاتهم وتجاربهم بطريقة غير معلنة. 

مجلة "المقتطف" 1877 
ورغم القرارات الحكومية الغربية الخاصة بتجريم عمليات نقل الدم، ظلت مسألة نقل الدم لإنقاذ البشر المهددين بالموت حلماً يراود البشرية طوال عمرها، وكانت البلاد البعيدة عن العلم التجريبي تتناقل أخبار هذا الحلم الذي لم يكن شائعاً، وهو ما تشير إليه مجلة المقتطف المصرية في خبر مؤرخ في الأول من يوليو/ تموز 1877، ويورد: "قبل نحو خمسين سنة ضجّ العالم باكتشاف جديد في صناعة الطب، ونسبوا إليه حينها شفاء المرضى وتقوية الضعفاء وإعادة الشباب، وهذا الاكتشاف هو نقل الدم من شخص إلى آخر، فتناولته الجرائد الطبية، وتوقعت منه إحداث تغيير عظيم في العالم، لكن لم تمر فترة طويلة على ظهوره حتى طرح في زوايا النسيان. والعام الماضي، بزغت أنواره مجدداً لكن ببهاء أقل من السابق، حين تعرض شاب في مستشفى مانشستر ببريطانيا لنزيف حاد بعد قطع عضو من أعضائه، ما جعله يغيب عن الصواب ويشرف على الموت، فلما رآه الطبيب الجرّاح وطلابه على هذه الحال قال لهم إن صاحبنا هذا مشرف على الموت بسبب كميات الدم التي نزفها، وسيموت إذا لم نُدخل في جسده دماً من رجل آخر، فانتدب واحد منهم، وقال هلم، خذ له من دمي ست عشرة أوقية طبية. ففعل. وبعد ساعتين استعاد المريض وعيه وتعرف إلى من حوله وأشرف على الصحة، ولما انتشرت هذه الحادثة في الجرائد الإفرنجية نبّهت أفكار صغار العقول إلى انتظار عجائب عظيمة تجرَى بواسطة نقل الدم، إلا أن صناعة الطب تنفي ذلك، ولا تسمح بنقل الدم إلا في حالات نادرة". 

ينقذ التبرّع بالدم كثيرين في العالم (عارف علي/ فرانس برس)
ينقذ التبرّع بالدم كثيرين في العالم (عارف علي/ فرانس برس)

إنجاز لاندشاير 
في بداية القرن العشرين أعلن الطبيب النمساوي كارل لاندشتاينر اكتشاف فصائل الدم، ما عدّل مسار التجارب، وأفسح في المجال أمام نقل آمن للدم بين البشر، تمهيداً لإحداث ثورة في عالم الطب. 
تنقل مجلة الهلال المصرية في عددها المؤرخ في الأول من فبراير/ شباط 1924 عن الحلم الذي أصبح حقيقة: "ما أراد السلف تنفيذه في السابق فعلَه الخلف الآن. يستعمل نقل الدم في نحو 28 حالة مرضية، مثل السل والنزيف والتسمم والضعف وحمى التيفوئيد. ولا ينتج من هذا النقل أي خطر بسبب المعلومات الجديدة التي بات يعتمد عليها الأطباء في مزاولة عملهم. وقد بلغ إيمان الناس بسلامة هذه العمليات سواء للسليم المأخوذ منه الدم أو العليل الملقح به أن عشرين أو ثلاثين شخصاً باتوا يلبّون طلبات أطباء المستشفيات في أي وقت في بعض مدن أوروبا وأميركا، من أجل أخذ دم منهم لتلقيح المرضى، وصار بعضهم يربح من ذلك ما يكفي للعيش". 
واختارت منظمة الصحة العالمية يوم ميلاد لاندشتاينر في 14 يونيو/ حزيران 1868، تاريخ الاحتفال بيوم المتبرعين بالدم، بينما كانت الحرب العالمية الأولى سبباً رئيساً لنشأة وتطور بنوك الدم وتقنيات نقله. وحصل لاندشتاينر على جائزة نوبل للطب عام 1930 لأبحاثه التي لعبت دوراً كبيراً في إنقاذ عدد لا يحصى من البشر، وبينهم آلاف الجنود المصابين في أثناء الحربين العالميتين. 

المتبرعون
يمكن لجميع الأشخاص الذين يتمتعون بصحة جيدة أن يتبرعوا بالدم مرة واحدة كل شهرين بكمية تراوح بين 450 و500 ملليلتر، وهي نسبة لا تزيد عن 8 في المائة من حجم الدم الطبيعي للإنسان. ولا يجب أن يزيد عدد مرات التبرع عن 5 مرات سنوياً. وفي العادة يجب أن يراوح عمر المتبرع بين 18 و65 عاماً، وألا يقل وزنه عن 50 كيلوغراماً، وأن تكون نسبة الهيموغلوبين للرجال بين 14 و17 غراماً، وللنساء بين 12 و14 غراماً، وقياس النبض بين 50 و100 في الدقيقة، ومعدل ضغط الدم أقل من120/80 ملليمتر زئبق، وألا تزيد درجة الحرارة عن 37 درجة مئوية. 

ولا يسمح لبعض الفئات بالتبرع، مثل المصابين بأمراض معدية كنقص المناعة المكتسبة (إيدز) والتهاب الكبد والزهري والملاريا، والمصابين بأمراض دم وراثية، وفقر الدم الحاد، والأمراض المزمنة كالسكري وارتفاع ضغط الدم والسرطان. 
يذكر أن جسم الإنسان يعوّض حجم الدم المتبرع به خلال ساعات معدودة، أما خلايا الدم فيجري تعويضها خـــلال أيـــام قـليلة من دون الحاجة إلى نظــــام غــــذائي معـــــين. وهناك فوائد صحية كثيرة للتبرع بالدم، مثل زيادة نشاط نخاع العظم لإنتاج خلايا دم جديدة (كريات حمراء وبيضاء وصفائح دموية)، وزيادة نشاط الدورة الدموية، وتقليل نسبة الحديد في الدم الذي يعد أحد أسباب الإصابة بأمراض القلب وانسداد الشرايين، وقد أشارت العديد من الدراسات إلى أن الذين يتبرعون بالدم مرة واحدة على الأقل سنوياً أقل عرضة للإصابة بأمراض الدورة الدموية وسرطان الدم. 

المساهمون