الخوف من تلطيخ السمعة دفع كتّاباً ومثقفين وإعلاميين وسينمائيين كثراً في مصر والعالم، إلى الاختفاء التام، بعدما لاحقتهم اتهامات بالتحرش الجنسي
على مدار الأيام القليلة الماضية، ضجت صحف ومواقع إخبارية تركية وعربية، باتهامات التحرش الجنسي التي لاحقت عدداً من الكتّاب والأدباء والمثقفين، وعلى رأسهم الروائي التركي حسن علي طوبتاش، والكاتب والروائي بورا عبده، والكاتب إبراهيم تشولاك، الذي انتحر بشنق نفسه، بمجرد ورود اسمه في قوائم المتهمين بالتحرش في تركيا. ترك تشولاك رسالة أخيرة له عبر حسابه الرسمي على "تويتر"، قال فيها: "لم أُعدّ نفسي لهذه النهاية. كنت أتمنّى أن أكون شخصاً جيّداً، لكنني لم أستطع أن أكون كذلك. من الممكن أن أكتب لساعات وأيام، لكنّ هذا لن يُعيد شيئاً إلى الوراء. من هذه الساعة لم أعد أستطيع أن أنظر في وجه زوجتي وأولادي وأصدقائي. أودّ أن أودّع أصدقائي جميعاً، والذين يرعونني، وأودّع زوجتي وأولادي الذين يعانون بسبب مشاكلي الخاصة".
على هذه الوتيرة، يسري واقع مكافحة ومناهضة جرائم التحرش الجنسي في مصر، والتي تخفت حيناً، وتعود أحياناً أخرى بأسماء جديدة تحدث صدمة في البداية، سرعان ما تتلاشى مع توالي شهادات الناجيات من المرتكب نفسه. وكلّ ذلك يجري بعيداً عن الدولة التي يفترض بها أن تبادر هي نفسها إلى تولي مسؤولياتها في مكافحة المتحرشين، من دون أن يحصل ذلك، بحسب كثير من الناشطين والناشطات.
مؤخراً، بالتزامن مع فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، نشرت مدونة "احكي" لمناهضة التحرش الجنسي، التي اشتهرت بنشر شهادات تحرش واعتداءات جنسية أبطالها المشتبه بهم صحافيون وحقوقيون بارزون في مصر، خمس شهادات حول مخرج سينمائي مصري بارز، اكتفت بالإشارة إلى الأحرف الأولى من اسمه "إ.ع.". الشهادات حملت حكايات مؤسفة ومخجلة بعض الأحيان، وحكايات قاسية وفجة في كثير من الأحيان، ما دفع إدارة المهرجان لإصدار بيان تعلن فيه تعليق المؤتمر الصحافي لفيلم، لأنّ مخرجه تلاحقه شبهات بالتحرش الجنسي، وهو الفيلم المشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان.
وجاء في بيان إدارة المهرجان: "بشأن ما جرى تداوله عن واقعة التحرش؛ إذا تم إثبات الوقائع المنسوبة للمخرج فسوف تستبعد إدارة المهرجان فيلمه من المسابقة، لكن حتى يحدث ذلك يلتزم المهرجان تجاه الفيلم بعرضه في المواعيد المعلنة مسبقاً حتى لا تتعرض التجربة وصنّاعها للظلم". وبمجرد إلغاء ندوة الفيلم، علم القلة الباقون أنّ المتهم "إ.ع" هو أحد المخرجين المعروفين، الذي دافع عن نفسه ضد الاتهامات التي وجهت إليه بمطالبة صاحبات الشهادات المنشورة على المدونة، بالتقدم ضده بشكوى رسمية للجهات المعنية. وعبر حسابه الرسمي على "فيسبوك" كتب: "الشهادات التي نشرت أمس واليوم، وربط البعض اسمي بها، هي ممتلئة بعدم الصحة والافتراء، لذلك أرجو من صاحبات الشهادات، لأهمية وخطورة الموضوع، اتخاذ الإجراءات اللازمة عبر الجهات المعنية، لكي يفتح تحقيق رسمي يوثق به كلام كلّ الأطراف بدقة... وأرجو من المجتمع الافتراضي توخي الحرص، ومعرفة أنّ الإدانة لكي تكون صحيحة تتطلب تقصياً للحقائق من جميع الأطراف، فتشويه السمعة والتشهير يتطلبان إثباتات بقدر حجم الاتهام".
قوبلت مطالبة المخرج، بسخرية وتهكم على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً أنّ الوقائع والروايات السابقة التي خاضت الطريق القانوني والقضائي لم تصل إلى شيء، وفي بعض الأحيان تحول الشهود في هذه الوقائع إلى متهمين، كما في القضية الشهيرة المعروفة بـ"قضية فيرمونت". كانت التحقيقات الأولية في القضية تدور حول واقعة اغتصاب إحدى الفتيات جماعياً من قبل عدد من الشبان عام 2014 في الفندق الشهير بالقاهرة "فيرمونت". وتحول مسار القضية، من قضية اغتصاب إلى تورط شبكة يقف وراءها أبناء رجال أعمال وفنانين وشخصيات عامة مصرية. وكتبت الصحافية المصرية، بسمة مصطفى، المفرج عنها مؤخراً في قضية على خلفية عملها الصحافي الدؤوب على قضايا التحرش والعنف الجنسي في مصر، شهادتها حول تغطية هذا النوع من القضايا عبر حسابها على "فيسبوك"، وقالت إنّه "بمناسبة شهادات الاغتصاب التي تظهر هذه الفترة ومطالبة المتهمين للضحايا بتقديم بلاغات لأخذ حقهم بالقانون أحب أن أقول لكم يا جماعة، إنّ الأحراز (المضبوطات) في قضيتي هي ملفات عملي الصحافي حول قضية فيرمونت. النيابة طبعتها ووقعتُ عليها، وأرفقت مع محضر القضية رقمها 959 نيابة أمن دولة عليا. ومع الملفات صورة نشرتها عن نازلي، على إنستغرام كتبت فيها: نازلي شاهدة حق، مش مجرمة... وذلك من باب التضامن. فكأنّي أحاسَب هنا على جريمتين من وجهة نظر الدولة؛ عملي الصحافي وتضامني كامرأة مع الضحايا. كلّ هذا حصل بينما أنا لست ضحية اغتصاب، بل صحافية حققت في قضية اغتصاب جماعي لفتاة بعد تخديرها. الدولة ترانا كنساء مجرمات، ولا ترانا ضحايا في الأساس". ونازلي مصطفى هي ابنة الفنانة المصرية، نهى العمروسي، إحدى المتهمات في "قضية فيرمونت" وطليقة عمرو الكومي، أحد المتهمين الرئيسيين في القضية، وقد تحولت من شاهدة في القضية إلى متهمة، ومحبوسة في سجن النساء في مصر منذ أكثر من مائة يوم.
وفي تصريح لـ"العربي الجديد" تقول حقوقية تتولى التحقق من تفاصيل الشهادات المنشورة على المدونات بشأن جرائم التحرش والاعتداء الجنسي، إنّ "التجربة الفعلية في مصر أظهرت أنّ اللجوء إلى القضاء والسير القانوني ضد المتهمين لا يأتي بنتيجة في هذا النوع من القضايا التي لا تحظى بقبول مجتمعي، إذ تظل الناجية أو صاحبة الشهادة متهمة رئيسية في وجهة نظرهم التي تتماشى مع التوجه المجتمعي العام للوم الفتاة أو السيدة بناءً على لبسها ومظهرها ونشاطها".
وتضيف: "إلى حين إدخال تعديلات قانونية على التشريعات المصرية المناهضة لهذا النوع من الجرائم، وإلى حين إقناع الجزء الكبير من الشعب المصري أنّه لا مبرر للتحرش والاعتداء الجنسي مهما كان، فإنّ السبيل الوحيد حالياً للضغط من أجل مناهضة هذه الجريمة، هو التنكيل بالمتهمين من خلال فضحهم وتلطيخ سمعتهم وتدمير علاقاتهم في الأوساط التي تحميهم". وتحاول الحقوقية إثبات نجاح هذه الآلية، بما حدث مع الإعلامي والصحافي المصري، يسري فودة، الذي لاحقته شبهات بالتحرش الجنسي في مقر عمله في ألمانيا، حتى انتهى به المطاف مطروداً من الوسيلة الإعلامية التي كان يعمل فيها، منبوذاً من الوسط الصحافي والثقافي المصري والعربي، ومختفياً تماماً عن الأنظار.
99 % من المصريات ضحية التحرش
أظهرت نتائج دراسة أجرتها هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، أنّ نحو 99 في المائة من النساء المصريات قد تعرضن لصورة ما من صور التحرش الجنسي. وتحتل مصر المركز الأول عالمياً في ظاهرة التحرش الجنسي، بحسب دراسات وأبحاث عدة داخل مصر وخارجها، فيما صنفت العاصمة القاهرة، عام 2017، أخطر مدن العالم للنساء.