لسنين طويلة، تمسكت آلاف العائلات الجزائرية بالعيش على سفوح الجبال والمرتفعات، بعيداً عن المدن والبلدات الكبيرة، في حياة قاسية مناخياً، بالترافق مع ضعف الخدمات والتقديمات
تسعة ملايين جزائري يعيشون في الأرياف، وعلى سفوح الجبال والمرتفعات، على الرغم من الطبيعة القاسية والعزلة الكبيرة التي تتميز بها هذه المناطق. يحركهم التعلق بالأرض وحبّ الطبيعة، فلا تغريهم المدن بالنزوح إليها، مهما مرّ بهم من مصاعب، لا سيما في سنوات التفلت الأمني، في تسعينيات القرن الماضي.
في مرتفعات مناصر وأغبال وسيدي سميان وبني ميلك، على بعد 120 كيلومتراً غربي العاصمة الجزائرية، تتراءى من بعيد الدواوير (تجمعات سكانية) المتناثرة هنا وهناك، على المنحدرات والقمم. داخل هذه الطبيعة والغابات التي يمكن أن تتحول إلى مزارات سياحية جبلية، مشاهد أخرى تجمع بين التواضع في العيش وحبّ الأرض والصبر على المعاناة والبؤس والتهميش، فهذه التجمعات السكانية لم تتغير أوضاعها كثيراً، على الرغم من إطلاق الحكومات المتعاقبة سلسلة من المشاريع والبرامج لفك العزلة عن السكان وتثبيتهم في مناطقهم الأصلية، إذ ما زال النقص كبيراً في ما يخص المرافق الحياتية الضرورية كتوصيل المياه الصالحة للشرب وشبكات الصرف الصحي، عدا عن بعد مرافق الصحة والتعليم، وعدم تعبيد الطرقات.
يعتمد السكان على سفوح الجبال على الفلاحة، لا سيما الزراعات الجبلية والرعي وتربية المواشي، لضمان قوت يومهم، وبذلك تحقق أسر كثيرة الاكتفاء الذاتي لناحية المواد الغذائية المنتجة ذاتياً من حبوب قمح شعير وبقول بأنواعها، وزيت زيتون، وتين، وفواكه متنوعة. ولطالما تميزت هذه المناطق بنظام الادخار، كما بتعدد النشاطات الاقتصادية الهادفة إلى تلبية احتياجاتها بصفة ذاتية عبر الرعي والإنتاج الحيواني، بالإضافة إلى بعض الحرف التقليدية. وتسوق العائلات منتجاتها من العسل والأعشاب الطبية والفواكه الجبلية والتين وزيت الزيتون وغيرها في أماكن عدة. ويطالب سكان الجبال السلطات بتسهيل تدابير السماح لهم بالاستثمار في الغابات، ومنحهم بطاقات مزارعين، بما يمكّنهم من الحصول على قروض مصرفية صغيرة لتطوير مشاريعهم الأسرية، ومساعدتهم في جلب المياه من المنابع الجبلية ودعم إنجاز أحواض تجميع مياه الأمطار لاستخدامها في الريّ.
يقول علي مهدي، الذي تقيم عائلته منذ عقود في دوار تيفساسين، ببلدة بني ميلك، في عمق الجبال الفاصلة بين ولايتي عين الدفلى وتيبازة، إنّ العائلة لم تشأ أن تغادر المنطقة الجبلية، وتمسكت بالبقاء والاستمرار في خدمة الأرض وأشجار الفواكه، بعدما نجح أبناؤها في تطوير زراعة بعض الأشجار، وتوصيل الكهرباء إلى مكان السكن وإنشاء مدرسة قريبة تغني الأطفال عن قطع مسافة بعيدة لتلقي الدروس. يؤكد أنّ للمنطقة مزايا، كالهدوء والحياة البسيطة، ويقول: "في الغالب، نحن ننتج قوتنا، من خضروات وفواكه والزيتون كما زيت الزيتون وغيره. وهو ما يخفف عنا العبء المالي". يضيف أنّ "هذا لا يغني عن ضرورات حياتية أخرى، إذ زارنا قبل فترة قصيرة مستشار الرئيس الجمهورية المكلف بمناطق الظلّ، إبراهيم مراد، وطرحنا عليه مشاكلنا العالقة، ومن بينها شقّ الطرقات وتعزيز وضع الكهرباء الريفية، لأنّ بعض السكان لم يصلهم التيار الكهربائي بعد".
منذ سنوات، يتابع نور الدين زروقي، وهو أحد ناشطي المجتمع المدني، ملف التنمية المحلية في قرى بلدة مناصر بولاية تيبازة، كقريتي تاملول وتيفساسين. يقول إنّ "قرى ومداشر كثيرة هجّرت من سكانها في سنوات العشرية السوداء (تسعينيات القرن الماضي)، إذ اضطر السكان إلى ذلك، خوفاً من بطش الجماعات المسلحة، ومنهم من استقر لدى الأقارب، ومنهم من اضطر إلى استئجار سكن لسنوات فيما شيد البعض مساكن من الألواح المعدنية، على أطراف المدن. لكن، بفضل الإرادة الكبيرة للجيش الجزائري وجماعات الدفاع الذاتي، استعيد الأمن، وطرد شبح الجماعات المسلحة من هذه المناطق، ما سمح للسكان بعودة تدريجية بعد عام 2000". وساعدت السلطات سكان سفوح الجبال بإعانات مالية لإنجاز مساكن ريفية، وقدمت مساعدات لهم لتطوير الزراعة الجبلية عن طريق منح عدد معتبر من الأشجار المثمرة، وتشييد خزانات للمياه، وتعبيد بعض الطرقات المؤدية إليها، وعزز ذلك من تشجيع كثير من السكان الأصليين للعودة القوية للاستقرار في تلك المناطق، ما بعث الحياة فيها مجدداً. وعلى الرغم من أنّ هذه المناطق - بحسب زروقي - تشهد بعض "الهجمات الإرهابية" حتى اليوم، فإنّ ذلك لم يدفع بالسكان إلى مغادرتها مجدداً، خصوصاً أنّ الحكومة لجأت هذه المرة إلى تعزيز الوجود الأمني في الجبال لتضييق الخناق على الجماعات المسلحة وتوفير الأمن للسكان وللحيلولة دون تفكيرهم في الهجرة بعد تنفيذ برامج كلفت الدولة الكثير من المال، كما حاولت السلطات الاستجابة لمختلف المشاكل لدى السكان لتعزيز ارتباطهم بالأرض، ما جعل بعض المناطق تخرج نوعاً ما من العزلة بعد تعبيد الطرقات وتوفير الإنارة والنقل، وإنشاء مؤسسات تربوية وصحية.
يفسر العضو السابق بالمجلس البلدي لمناصر، جمال بوشيرب، في حديث إلى "العربي الجديد" علاقة سكان المناطق الجبلية بأراضيهم، ويقول إنّ "لها امتداداً عبر التاريخ، إذ كان السكان يعتبرون الطبيعة الجبلية الحصن المتين من أيّ غزو، وهي طبيعة تصعّب على الغزاة الوصول إليهم، وبالتالي تبقى لهم مساحة من الحرية، وهو ما خلق الارتباط الوثيق بين السكان والجبل".
ويبلغ مجموع سكان المناطق الجبلية والريف في الجزائر تسعة ملايين نسمة، وتقدر مساحة الأراضي الجبلية بتسعة ملايين هكتار.