يعدّ الجسر الحديدي في إنكلترا معلماً تاريخياً ومهد الثورة الصناعية، وقد شكّل بناؤه لغزاً. لكن بعيداً عن هذا اللغز، فقد ساهم هذا الجسر في تسهيل الحركة التجارية
بُني أوّل جسر حديدي في العالم فوق نهر سيفرن (أطول الأنهار في المملكة المتحدة)، في بلدة كولبروكديل في مقاطعة شروبشاير في إنكلترا عام 1779. ومع مرور الوقت، أعطى هذا الجسر الشهير على مستوى العالم اسمه، "أيرون بريدج جورج"، للمنطقة التي نمت وتطورت حوله لتصبح مهد الثورة الصناعية في البلاد.
تمتد أجزاء من هذا الجسر الحديدي إلى داخل كولبروكديل الغنية بالمعادن والفحم وخام الحديد والحجر الجيري والرمل والطين، الأمر الذي شجّع أصحاب الأراضي المحليين على استغلال هذه الثروة الطبيعية على نطاق واسع في عهد الملكة إليزابيث الأولى.
ومع زيادة إنتاج الفحم، وتحديداً بعد عام 1600، بُنيت سكك حديدية خشبية لنقله من المناجم إلى ضفاف نهر سيفرن. كذلك، جذب هذا المكان الخزافين وصانعي أنابيب التبغ والزجاج والحدادين وآخرين لبناء منازلهم على طول منحدرات المضيق.
ويُقال إن كولبروكديل كانت موطناً لأوّل فرن كبير يعمل بفحم الكوك في العالم، وإن لم تكن هناك أدلة. في عام 1709، أعاد أبراهام داربي (مستكشف حديد إنكليزي أحدث ثورة في وسائل إنتاج الحديد من خلال تطوير عملية صهره باستخدام فحم الكوك)، بناء فرن كولبروكديل. وبدأ بصنع الحديد مستخدماً أسلوباً مبتكراً عد تطوراً بالغ الأهمية، أدى في النهاية إلى زيادة هائلة في إنتاج الحديد في بريطانيا، وكان جزءاً من التغيرات الدراماتيكية التي أطلق عليها المؤرخون الثورة الصناعية.
وبدأ التوسّع في تجارة الحديد المحلية عام 1755، من خلال بناء فرن صهر (للمعادن) في المنطقة من قبل ابن أبراهام داربي الثاني، الذي ساهم وغيره من صانعي الحديد في مجموعة من الابتكارات من خلال استخدام الحديد. وفي عام 1720، تم توفير أسطوانات حديدية للمحركات البخارية.
بعد ذلك، في عام 1729، تم صب عجلات حديدية لعربات السكك الحديدية في كولبروكديل. وصنعت القضبان الحديدية في عام 1767. وفي عام 1787، أطلق جون ويلكينسون (الملقب بالمجنون بالحديد، وهو من رواد صناعة حديد الزهر واستعمال منتجاته خلال الثورة الصناعية)، بارجة حديدية في نهر سيفرن.
وفي خمسينيات القرن الثامن عشر، تم تشغيل ستة معابر أو أكثر للعبارات. وكانت كلها ضرورية لنقل المواد الخام عبر النهر إلى مصانع الحديد وغيرها. ولم يكن هناك سوى معبر آخر وحيد، هو جسر بيلدواس الذي يعود إلى القرون الوسطى، على بعد 3 كيلومترات من المنبع. وغالباً ما كان النهر ضحلاً جداً في الصيف ومنسوب المياه مرتفعاً في الشتاء. لذلك، كانت الصناعة في كثير من الأحيان تحت رحمة النهر، الأمر الذي أدى إلى اقتراح إنشاء جسر حديد.
وكُلّف أبراهام داربي الثالث، صانع الحديد، ببنائه، حيث بدأ في الترويج لبناء الجسر في القرن الثامن عشر. وسلطت حملته الإعلامية الأضواء على صور لأشخاص ينظرون إلى الجسر بملابس أنيقة أو عربة تنتقل عبره، لكنها لم تذكر أي شيء عن تلوث المضيق. ونشرت صورة للجسر قبل أن يصبح جاهزاً. ففي عام 1773، اقترح المهندس المعماري توماس فارنولز بريتشارد بناء جسر حديدي عبر النهر على صانع الحديد ورجل الأعمال المحلي جون ويلكينسون، فكلّفت مجموعة من رجال الأعمال المحليين داربي الثالث بإنجاز هذه المهمة، التي قدرت كلفتها آنذاك بـ3200 جنيه إسترليني.
وفي عام 1776، وافق البرلمان الإنكليزي على بناء الجسر، ليبدأ العمل في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام التالي. وكان من المقرر أن يكون جسر داربي الأول في العالم الذي يستخدم الحديد الزهر أو الصب، الأمر الذي جذب الفنانين والكتاب والمهندسين من جميع أنحاء العالم لرؤيته. واحتاج بناء الجسر 384 طناً من الحديد، الأمر الذي كان سيستغرق ثلاثة أشهر من الإنتاج المستمر في أحد أفران داربي، كما يقال. واللافت أن المكان الذي تم فيه صب القطع الحديدية للجسر ليس معروفاً على وجه اليقين، ولكن يُعتقد أنه تم صبها في فرن داربي (على بعد 1.6 ميل من موقع الجسر)، لأن القطع كانت كبيرة وثقيلة جداً، وكان من الصعب للغاية نقل هذه الأحمال الكبيرة بواسطة عربات تجرها أحصنة.
ولا توجد سوى صورة واحدة معروفة للجسر قيد الإنشاء، وهي عبارة عن لوحة للفنان السويدي إلياس مارتن تظهر وجود أعمال، وراح الكثير من الناس يتكهنون على مرّ السنين حول كيفية بناء الجسر بالفعل.
ولحل هذا اللغز، زار المتحف في عام 2000، أفراد من هيئة الإذاعة البريطانية - "بي بي سي تايم ووتش" (برنامج تلفزيوني بريطاني يعرض أفلاماً وثائقية حول قضايا تاريخية)، وأقاموا نموذجاً بحجم نصف مقياس الجسر الحديدي فوق القناة. ومع استخدامهم الأساليب ذاتها الموضحة في لوحة إلياس مارتن، نجحوا في تركيب ثلاثة أضلاع، فأعطت هذه العملية صورة أفضل عن الأساليب التي استخدمها المهندسون في عام 1779 لبناء هذا الجسر. وكانت الكلفة النهائية لبناء الجسر آنذاك ستة آلاف جنيه إسترليني. بينما لو أراد أبراهام داربي بناء مثل هذا الجسر اليوم، فسيتعين عليه جمع 1.5 مليون جنيه إسترليني.