في سوق المدينة العتيقة بتونس العاصمة، حيث توجد المحلات الأكثر شهرة لحرفيي الصناعات التقليدية، يعمل رياض بن يوسف في صناعة قبعات الشاشية منذ سنوات، رغم أنه درس طب الجراحة في الجامعة. ويتوجه الرجل يومياً منذ ساعات الفجر الأولى إلى محلّه الصغير في السوق لممارسة الحرفة التي اشتهرت به عائلته، وتوارثتها أجيالها منذ أكثر من 100 سنة.
يخبر رياض "العربي الجديد" أنّ عشقه هذه الحرفة وحبّه السوق القديم الذي نشأ فيه كانا أكبر من حبّه مهنة الطب التي درسها خمس سنوات في الجامعة. ويقول: "رغم تفوقي في دراسة طب الجراحة الذي يعتبر من الاختصاصات الصعبة جداً، كانت حرفة صناعة الشاشية الأقرب إلى قلبي، خصوصاً أنّ غالبية أفراد عائلتي الرجال امتهنوها طوال عقود. وقد اعتدت منذ صغري على الوجود في محلات الحرفيين".
وتتميز قبعات الشاشية بلونها الأحمر، وتُشبه تلك التي يلبسها الرجال في دول إسلامية عدة، لكنّ نوعها التونسي يختلف في الشكل وطريقة الصنع، ما أكسبها مظهراً فريداً. لونها أحمر في الأساس، وتقي مرتديها من الحر والبرد معاً، وبات الحرفيون اليوم يصنعونها بألوان مختلفة، بعدما باتت ترتديها النساء أيضاً في بعض المناسبات. وهي تُصدّر من تونس إلى ليبيا والجزائر والمغرب والسودان وحتى النيجر، ودول أخرى في الشرق الأوسط. لكنّ الشاشية التي يجرى تصديرها إلى دول أخرى تختلف عن التونسية في الشكل والألوان بحسب احتياجات السوق في الخارج، فسكان ليبيا يُفضلون الشاشية بلون أسود، والمغاربة تلك التي تُشبه الطربوش.
ويعود تاريخ الشاشية في تونس إلى زمن الأندلسيين، وازدهرت صناعتها في غالبية مدنها الساحلية، على غرار العاصمة وسوسة والمنستير ومناطق داخلية مثل القيروان، وأصبحت أحد رموز اللباس التقليدي التونسي وأشهره. ويُسمى صانعو الشاشية بـ"الشواشين"، علماً أنّ الزُقاق الذي تنتشر فيه محلات الحرفيين في تونس العاصمة يطلق عليه اسم "سوق الشواشين"، وهو من الأشهر في البلاد، ويقع قرب غالبية محلات الصناعات التقليدية.
وفيما تمرّ صناعة الشاشية بعدّة مراحل دقيقة تتطلب صبراً طويلاً للحصول على قبعات بالطريقة القديمة، يقول رياض "إنّ صناعة الشاشية تعتمد في الأساس على الصوف الذي يغزل بطريقة خاصة، وتستخدم إبراً لتشكيل الشاشية باللون الطبيعي للصوف، في عملية تحمل اسم (التلبيد)، قبل تمشيطها باستخدام مشط يحتوي أسنان حديد رقيقة جداً. وتستمر عملية التمشيط ساعات لتصبح الشاشية ناعمة وملساء جداً، ثم توضع في قوالب أحجار بأحجام مختلفة كي تأخذ الشكل النهائي، قبل صبغها باللون الأحمر التقليدي في تونس، وإعادتها إلى القالب وتمشيطها مجدداً بعدما تكون قد تشرّبت اللون".
وقد تعلّم رياض الحرفة عن عائلته التي امتهنها أفرادها وتوارثوها في السوق العتيقة ذاتها. وهو لا يرى أنّها تختلف عن الطب في ضرورة أن يكون منفذها بارعاً ويجيد العمل الدقيق جداً. ويشير إلى أنّه يُصدّر كميات كبيرة من الشاشيات التي يصنعها إلى دول عدة، لا سيما إلى ليبيا التي يستعمل مواطنوها قبعة الصوف التي تصنع في تونس، لكن لون القبعات التي تصدّر إلي ليبيا أسود، وتختلف في الشكل.
ويذكر رياض أنّ عائلته، خصوصاً والده، رفضت في البداية فكرة أن يترك دراسته الجامعية، لا سيما أنّه يدرس الطب، لكنّه أصرّ على العمل في هذه الحرفة والوجود في السوق القديم الذي يستقبل مئات من الزوار والسياح يومياً. ويقول: "لم أندم على ترك دراسة الطب والالتحاق بعمل قد يتأثر سلباً بظروف وأزمات اقتصادية وتراجع عدد السياح". ويشدد على أن "هذه الحرفة لن تموت في تونس طالما تُعتبر من الموروثات في مناطق عدة. وهي في كل الأحوال قبعة تقي رأس الفقير والغني، وليست حكراً على أحد، وأسعارها التي تتراوح بين 4 و10 دولارات في متناول الجميع، رغم تراجع استهلاكها بسبب تخلي التونسيين عن اللباس التقليدي، لكنها تستعمل في المناسبات وحفلات الأعراس".
ورغم انتشار الشاشية الصينية المُقلّدة في بعض الأسواق، لا يهتم التونسيون إلا بشراء الشاشية التي تصنعها أيدي محلية لأنّها تصنع من صوف طبيعي، وتستهلك لسنوات من دون أن يتغيّر لونها أو شكلها أو ترتخي خيوط نسيجها. وفي الأساس، تبيعها المحلات مباشرة في غالبية الأسواق العتيقة بالمدن، وأشهرها سوق المدينة العتيقة في العاصمة قرب جامع الزيتونة. وهي تستهوي السياح الأجانب، علماً أنه يمكن تمييزها جيداً عن تلك المستوردة من الصين، التي لا تصنع من صوف طبيعي ويختلف شكلها عن تلك اليدوية. ويقول رياض: "أثّرت منتجات مقلّدة عدة على الصناعات التقليدية، لكن صناعة الشاشية صامدة بسبب تمسك بعض الشبان بها، والإقبال عليها للحفاظ على الموروث التقليدي".