"إن شاء الله سأستشهد وتضع شجرة الزيتون على قبري"، كانت هذه آخر كلمات الشاب الفلسطيني رائد النعسان (21 عاما) لوالده وهما يغرسان الأرض، ويتحدثان عن الشهداء الذين ارتقوا برصاص الاحتلال.
تعرض رائد النعسان خلال اقتحام قريته لثلاث عمليات إطلاق نار، كانت آخرها قاتلة، قرب منزله في قرية المغير شمال شرق رام الله وسط الضفة الغربية، حيث نقل إلى المستشفى وعاد شهيدا بجنازة كبيرة، شارك فيها المئات، تكريما له كما يقولون، لما كان يقوم به على مدار سنوات تصديا للاحتلال ومستوطنيه.
بين بوابة المنزل والمسجد المجاور، وضع الأهالي، أمس الأربعاء، خلال تشييعه، عددا من حجارة الطوب وأغصان الزيتون، لتدل على مكان استشهاده، تجمع المشيعون في انتظار خروج الجثمان للمرة الأخيرة من المنزل وقد عُرفت عن عائلته مقاومة الاحتلال، بينهم جده، ووالده، وشقيقاه الأسيران.
بدأت حكاية استشهاده أول من أمس الثلاثاء، كما يروي والده غازي لـ"العربي الجديد"، حين كانا يزرعان أشجار الزيتون، وبقيت شجرة واحدة قبل الانتهاء، لكن رائد قرر المغادرة، ليقول: "إن شاء الله سأستشهد وتضع هذه الشجرة على قبري، اليوم الثلاثاء فقدنا أربعة شهداء وسأكون أنا الخامس (واستشهد باليوم نفسه الشقيقان جواد وظافر الريماوي، ومفيد خليل، وراني أبو علي)، أريد اللحاق بهم".
قال ذلك بينما كانت المواجهات قد بدأت في قرية المغير بعد اقتحام لقوات الاحتلال، سبقه اعتداء من قرابة مائة مستوطن على أحد المنازل، وتعرض رائد خلال الاقتحام لثلاثة عمليات إطلاق نار، كانت آخرها قاتلة قرب منزله.
ويطالب غازي في رسالة أرسلها للفصائل الفلسطينية بالحفاظ على المقاومة، قائلا إن ابنه ليس أفضل من شهداء فلسطين، مطالبا بتوحيد الدم ضد الاحتلال.
داخل المنزل الذي ساده حزن والدته وجدته وشقيقاته وقريباته، لم يتوقف الجميع عن ذكر مبادرة الشهيد الدائمة في التصدي لقوات الاحتلال. تقول شقيقته براءة، لـ"العربي الجديد"، إنه كان دائما في الصفوف الأمامية، لم يخف يوماً من صوت الرصاص حين يخاف الجميع، بل كان دوما يمر قرب رأسه ويبتسم.
تخرج رائد من جامعة الاستقلال للعلوم الأمنية بعد عامين من الدراسة، لكنه كان دائما يتمنى أن يستشهد، فقد اعتقل في سجون الاحتلال، وأصيب مرتين خلال المواجهات، إحداها بعد أسبوع فقط من الإفراج عنه.
تقول شقيقته: "إن مثل ذلك كان حافزا له للعودة إلى المواجهات"، وأضافت: "كان حنونا على الجميع، لكنه لم يضع لحياته غير الاستشهاد هدفا، فوالدي قال له إنه يريد أن يبني له بيتا ويزوجه، لكنه رفض وقال افعل ذلك لأشقائي".
أما الدته فكانت تتمنى أن يستقبل شقيقيه أسامة ومجاهد محررين من سجون الاحتلال، خصوصا أنه كان ينوي إقامة حفل لهما بمناسبة خروجهما، أما هو فقد أخبرها يوم استشهاده أنه يتمنى زيارة المسجد الأقصى، فردت عليه أنه حاول ومنعه جيش الاحتلال، فعاد.
لا تخفي والدته محاولاتها المستمرة لثني رائد عن التوجه إلى المواجهات، قائلة له: "لا تفعل شيئا قبل أن يخرج شقيقاك من السجن"، لكنه كان دائم الإصرار على التصدي للاحتلال.
يسير رائد، كما يؤكد أقاربه، على طريق عائلته، فالجد عيد النعسان كان قد اعتقل مرتين، إحداها في معركة منطقة المباركية شرق القرية عام 1969، وفي اعتقاله الثاني عام 1979، حكم بالسجن المؤبد، وأبعد إلى الخارج بصفقة تبادل عام 1983، ووالده اعتقل لما يقارب تسع سنوات، بينما لا يزال شقيقاه أسيرين.
يقول أستاذه مرزوق أبو نعيم، لـ"العربي الجديد"، إن الشهيد رائد النعسان قد تأثر باستشهاد رفيقه وصديقه وزميل دراسته ليث أبو نعيم عام 2018، وقد كانا بالصف العاشر الأساسي، وكان معه حين أصيب برصاص الاحتلال خلال المواجهات، وظل منذ ذلك متابعا عناد صديقه في التصدي للاحتلال والمستوطنين، فالمغير عادة ما تشهد اقتحامات متكررة، واعتداءات من المستوطنين بشكل دوري.
وكان أحد الاقتحامات أول من أمس بهدف توزيع بلاغات لهدم 4 منشآت ومنازل. ويروي ضابط الإسعاف في الإغاثة الطبية الفلسطينية مجاهد أبو عليا، لـ"العربي الجديد"، ما حصل حين كان بمهمة إسعاف، قبل أن يتسلم أحد الإخطارات.
يقول أبو عليا: "إن جيش الاحتلال وضباط ما تسمى الإدارة المدنية التابعة لجيش الاحتلال اقتحموا القرية بهدف تسليم الإخطارات، ووجدوا إحدى الطرق مغلقة، فعادوا وتمركزوا بإحدى الزوايا المقابلة لمكان الشهيد قرب باب منزل ذويه، وأطلق ضباط الإدارة المدنية بأنفسهم الرصاص مستهدفين الجزء العلوي من جسد رائد، وتحديدا تحت إبطه، حيث وصلت الرصاصة إلى صدره".
ويضيف أبو عليا: "إن كل ما كان يفعله الفتية والشبان إلقاء الحجارة، وكان بإمكان الجيبات متابعة المسير من دون أي عائق، لكنهم قرروا إطلاق النار، ثم واصلوا إطلاق النار نحوي رغم أنني أردت الوصول إلى الشهيد لإسعافه".
وكرّم أهالي المغير ابنهم رائد بجنازة انطلقت من مجمع فلسطين الطبي في مدينة رام الله، مرورا بشوارع المدينة بمشاركة شبان المدينة، قبل وصوله ظهرا إلى وسط المغير، حيث أقيمت عليه صلاة الجنازة في ساحة عامة، وودعت عائلته جثمانه في منزله قبل الانتقال به إلى مقبرة القرية، ليدفن بجانب قريبه حمدي النعسان الذي استشهد برصاص المستوطنين عام 2019، وسط هتافات غاضبة، حيّت الشهيد، وحيّت مجموعات "عرين الأسود"، وذوي الشهيد.
وخلال التشييع، اعتبر رئيس نادي الأسير قدورة فارس، خلال كلمة له، دم الشهيد والشهداء الذين سبقوه أول من أمس رداً عملياً على تطورات الوضع السياسي الإسرائيلي بعد الانتخابات الإسرائيلية، والرسائل المتطرفة لكل من إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، داعيا إلى عصيان وطني بوجه الاحتلال، مشيدا بنموذج عائلة رائد المناضلة.