"نوض نافيقْي على زمانك صحابك قفْزوا وأنت ما زال حِيطيست" (قم تحرك من أجل مستقبلك، أقرانك نجحوا وأنت ما زلت بطّالاً)، هكذا يتحدّث شاب إلى صديقه في حيّ جزائري، باستخدام مفردات خاصة بالشباب، وتعكس حال العاطلين عن العمل، وطرق التواصل بينهم، وكيفية تعبيرهم عمّا يجول في خاطرهم.
إنّها لغة "الطابق الأسفل" في المجتمع الجزائري التي تحمل أسراراً تتشكّل من مواضيع يمنع تداولها في الأوساط الأسرية، وأخرى مُباحة تتأرجح بين واقع اجتماعي لا يمكن التعبير عنه إلا بلغة التمرّد على الكلمات الموجودة والمتداولة، لتحقيق غايات الاستقلال عن قواعد الأسرة، وبين معتقدات المجتمع.
مهاجمة المتكئين على جدران
تنتشر كلمة "نافِيقْي" بين أوساط الشباب الجزائريين، وتعني السعي إلى كسب المال بأي طريقة، وأصبحت متداولة في الشارع للتعبير عن الشباب العاطلين عن العمل، تحديداً الذكور، ممن ينتظرون فرصة الحصول على مال، فيما سبقهم الشاب "القافز"، وهي لفظة أخرى ذات دلالة اجتماعية بين الشباب، وتعني أن من يُنعت بها شاطر، وتخطى الصعوبات خلال محاولته الحصول على أي نوع من الرزق، وباستخدام أي طريقة للحصول عليه، وكأنه في منافسة لن ينال شرف الفوز بها "الحِيطِيست" وهي كلمة أخرى تصف حالة الشاب البطّال الذي لا يجد عملاً، أو حتى لا يبادر إلى البحث عن عمل، ويقضي معظم وقته متكئاً على الحائط.
يبتعد الشباب الجزائريون عن استخدام مفردات العربية الفصحى أو حتى اللهجة الدارجة في بلدهم، وتقترب مفرداتهم شيئاً فشيئاً من لغات أخرى، مثل الفرنسية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية. وينفرد شباب الأحياء الشعبية في المدن، على غرار باب الوادي والحراش ودرقانة في العاصمة وغيرها باستخدام ألفاظ مشفّرة يصعب أن تفهمها فئات عمرية أخرى، فعلى سبيل المثال توظّف كلمات "الزندة" و"الهزّي" و"الشّيكور" للتعبير عن الرجولة، كما يشرح هشام رحماني البالغ 23 من العمر والذي يقيم في حي لعقيبة وسط العاصمة، "فكل هذه المفردات تعني الرجل الآمر الناهي الذي يفعل ما يريد، ولا يمكن أن يحاسبه أحد على أعماله". ويقول لـ"العربي الجديد": "الشيكور أو الزندة هو الشخص المفتول العضلات الذي يملك جسداً صلباً وقوياً، وقد يلقى معاملة الزعيم الذي يخشاه كثيرون، حتى أفراد عائلته وأقرانه من الجيران وأبناء الحيّ الذي يمكث فيه، وتتداول الكلمات مختلف الفئات لكن بنوع من الخجل".
لغة "البزنس" إيجاباً وسلباً
لم تتوقف صفات الشطارة والقوة والزعامة عند هذا الحدّ، إذ تغلغلت في أساليب كسب الشباب للمال التي يصفونها بعبارات ينفردون في استخدامها. وقد حازت كلمة "التبزنيس" المشتقة من اللغة الإنكليزية وتدل على الأعمال، حظاً وافراً في عمليات التواصل بين رجال الأعمال الشباب. ويطلق على الشاب الذي شقّ طريقه في الأعمال الحرّة "البزناسي".
وقبل أسابيع، اتخذت السلطات الجزائرية، بعد سنوات من التردّد السياسي والمطالبات الأكاديمية والبيداغوجية (التربوية)، قرار تدريس اللغة الإنكليزية منذ بداية المرحلة الابتدائية. لكنّ أكاديميين وخبراء كثيرين في علوم التربية واللغات، رأوا أن تحقيق الانتقال اللغوي وتدريس اللغة الإنكليزية كقاعدة لغوية أساسية في الجزائر يستدعي إجراء دراسات معمّقة حول الواقع التربوي وتعليم اللغات في الجزائر، وتوفير الوسائل الضرورية لنجاح العملية، والمرور في مرحلة انتقالية تتطلب في الوقت نفسه زيادة حصص اللغة الإنكليزية للتلاميذ الذين لم يتعلّموها في المرحلة الابتدائية، من أجل تحقيق حدّ مقبول من التوازن في معرفة اللغة بين مكوّنات جيل تعليمي معيّن.
كذلك، يجري تداول كلمات سلبية خاصة للتعبير عن الأعمال السلبية ذات الفضاء الضيّق في عالم المال، وبينها كلمة "التشّيبة" (الرشوة او العمولة) التي نالت قسطاً وافراً من عبارات عالم المال والأعمال، علماً أنها كلمة إسبانية تعبّر عن سلة الفواكه التي تقدّم كهدية في المناسبات والأعياد، ثم أصبحت تدل على منح مبلغ للاعتراف بفضل شخص ساهم في قضاء مصلحة أو حاجة لشخص آخر، وتختلف بالتالي قيمتها بين مصلحة وأخرى، وبحسب نوع الخدمات، وتحصل بالهمْس فقط.
وتستخدم" التشيبة" في الأماكن التي تحتضن المعاملات اليومية للجزائريين، بحسب ما تقول حليمة سعدون، الطالبة الجامعية في كلية الاقتصاد في جامعة الجزائر لـ"العربي الجديد"، لكنها تكشف أن "هذه الكلمة استبدلت بسرعة بعبارة نعطيك قهوة، أي رشوة للشخص الذي ينجز معاملة لصاحبها أو يقضي مصلحة استصعب حلها، أو يساهم في فوز شخص دون آخر بمناقصة".
وبعدما سادت هذه الكلمات في أوساط الشباب فقط، انتزعت مع مرور الوقت مكانها في الوسطين الاقتصادي والسياسي، وانتقلت، مثل العدوى، إلى مختلف العلاقات الاجتماعية، فظهرت ألفاظ أخرى مرتبطة بالمال مثل "بريكا" أو "حجرة" (الحجر القاني المستعمل في البناء). وكلاهما يرمزان إلى مبلغ 10 آلاف دينار (68 دولاراً)، و"الهُوبلة" أي ورقة 200 دينار (1.36 دولار) نسبة إلى معلم "مقام الشهيد" وسط العاصمة الجزائرية الذي يطلق عليه "هُبل"، وهو المعلم نفسه الذي يتضمنه رسم هذه الورقة النقدية.
فجوة بين الأجيال
وبعيداً من عيون الرقابة، يستعمل الشباب في حي صالومبي وسط العاصمة الجزائرية كلمة "الزطلة" و"الشّيرة" للتعبير عن المخدّرات. ولا يقتصر استخدام هذه الكلمات على الأشخاص الذين يتعاطون المخدّرات، بل لوصف الحال النفسية للبعض فيقول أحدهم لآخر: "راني مزطول"، أي أنه في غير وعيه بعدما طحنته ظروف الحياة.
وليست اللغة أحد أساليب التواصل فقط، فالباحث في اللغة والخطاب الشعبي علي بلونة يعتبر في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "القاموس اللغوي للشباب لا يستقر على حال واحدة، اذ يزود بألفاظ تعبر عن ظروفهم الاجتماعية والنفسية تفرضها عدة عوامل في مراحل النمو النفسي والاجتماعي التي تتعرض لتغيّر دائم". ويشير إلى "فجوة لغوية بين الأجيال، فالجيل الأول يعتبر بعض الألفاظ شتيمة وتخرج من إطار الآداب العامة، إذ يضع بعضها في خانة الألفاظ السوقية التي تفتقر إلى اللباقة، بينما يصنفها الجيل الثاني كونها هوية تحقق الاستقلال الذاتي، وتبتعد شيئاً فشيئاً عن قوالب صنعت في زمان حالي مختلف يعجّ بصخب اختراعات التكنولوجيا ولغاتها المختلفة".
المدينة والهامِش
من جهته، يلاحظ أستاذ اللغة والخطاب في جامعة الجزائر، عبد الكريم زيدون، في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "التعابير الشبابية الحالية تعكس صراعاً بين المدن المختلفة والريف والمناطق الداخلية. وبين أمثلة الصراع في الألفاظ التي يستخدمها الشباب كلمة شبرق التي انتشرت في شكل واسع، وتعني تحقير القادمين من القرى والمداشر والأرياف إلى المدن الكبرى، ما يعني أنها إحدى وجوه التمييز العنصري". ويوضح أن "الكلمة مشتقة من نبتة الشبرق التي تنمو في الصحراء ولا طعم لها، واستعمالها على غرار كلمات أخرى مثل الكافي المستوحاة من كلمة فرنسية تعني القبو، أو الإنسان الذي خرج من القبو، يستهدف وصف الشباب الذين خرجوا من ظلام مناطق لا علاقة لها بالتحضّر إلى نور المدينة والعمران".
واللافت أن لغة الشباب الجزائريين هي أيضاً وليدة أسباب ودواعٍ اقتصادية وظروف اجتماعية وسياسية وثقافية، وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من تنشئتهم الاجتماعية وثقافتهم التي اكتسبوها بالخبرة، وتتيح لهم الحديث في العلاقات بين الجنسين، باستخدام ألفاظ في فضاء مغلق جداً، فالشاب الجزائري يصف البنت الجميلة بـ"الزلة" أو "البابيشة" التي تشبه القطة الجميلة.
وتقول أستاذة علم الاجتماع بجامعة وهران، غربي الجزائر، نادية عياري، لـ"العربي الجديد": "تفرض عوامل متشابكة استعمال هذه اللغة الخاصة، وتصنع ما يمكن وصفه بالقاموس اللفظي الخاص بالشباب الذين يهربون إلى التعابير الخاصة بتجاربهم اليومية في سبيل الإفلات من منظومة التقاليد والعادات، وهي تمتدّ إلى مجالات اللباس والتسريحات والمأكولات والرياضات، وقيادة المركبات والدراجات، وصولاً إلى اقتناء الهواتف الخليوية ومتابعة الجديد في الموضة".