لدى لبنان إرث علمي يعود إلى أحد أقدم عصور الكرة الأرضية، متمثلاً بالعنبر، أو الكهرمان، وما يحويه من كائنات حيّة محفوظة كمتحجرات. لكنّ هذا الإرث لا يحظى بالاهتمام المطلوب
منذ انفجار الرابع من أغسطس/ آب 2020 الذي دمّر مدينة بيروت، ترددت كثيراً كلمة عنبر (العنبر الـ12)، وما رافقها من مآسٍ وضحايا وصور لدماء وآلام وأحزان على امتداد الوطن. لكنّ هذه الكلمة تحمل كثيراً من المعاني في اختصاصات علمية، وفي أحدها يتميّز لبنان بأنه يضمّ العنبر الأقدم في العالم الذي يحتوي بكثرة على بقايا كائنات حية متحجرة.
يشرح الباحث في علم التطوّر والباليونتولوجيا (علم المستحاثات، أو الأحياء القديمة) في الجامعة اللبنانية، البروفيسور داني عازار، أنّ مصطلح العنبر له تعريفات عدة، منها: البخور نسبة إلى الرائحة القوية حين يحترق، أو مكان تخزين المواد في بعض الأماكن مثل المرافئ، أو صمغ نباتي متحجّر أفرزته نباتات متحجرة من أنواع الصنوبريات أو حتى الكاسيات، أو مادة صمغية تفرزها الحيتان حين تتقيأ بعد أكلها لقناديل البحر، فتفوح من هذه المادة رائحة عطرية قوية حين تتعرض لأشعة الشمس، وتستخدم في تثبيت الروائح في صناعة العطور. من جهة أخرى، يعرّف العنبر، في علم الباليونتولوجيا، بأنّه الصمغ النباتي المتحجر، وهو الكهرمان، وهي كلمة فارسية من أصل يوناني تعني الكهرباء، نسبة إلى أنّ حفّ الصمغ النباتي المتحجر يولّد موجة كهربائية. يضيف عازار أنّ دلالات الكلمة تختلف وفق اللغات. فعلى سبيل المثال، تعني الكلمة في اللغة الألمانية الحجر الذي يحترق، أما في الروسية، فهي "ينطار" وتشتق هذه الكلمة من اللغة الفينيقية (وتعني الطلاسم)، إذ إنّ الفينيقيين أول من تاجر بهذه المادة.
يتطرق عازار إلى إحدى النظريات التاريخية، إذ يقول إنّ الفينيقيين كانوا يتاجرون بهذه المادة التي يحملونها عبر الطريق البحري من بلاد البلطيق إلى بلاد فارس ومصر، وكانوا يختلقون الأساطير حول بلاد المنشأ لإثارة الذعر عند الآخرين ممن يرغبون في المتاجرة بها. وعرف الفينيقيون هذه المادة أقله منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وكانوا يستخدمون العنبر البلطيقي في صناعة المجوهرات، وليس العنبر المحلي الذي لا يصلح لهذه الصناعة، لكونه يتفتت بسرعة، باستثناء تمثال صغير من العنبر اللبناني ما زال موجوداً في متحف القدس. يذكر أنّ الرومان، أيضاً، تاجروا بالعنبر عبر الطريق البري من بلاد البلطيق نحو البلاد الأوروبية، وعُثِر في لبنان على آثار لقطع من العنبر في المقابر الرومانية التي تعود للقرن الأول الميلادي.
شكّل العنبر مادة دسمة لحياكة الأساطير، مثل اعتباره دموع الآلهة، أو بول الهررة البرية، واعتُبر أيضاً مادة ذات قيمة جمالية عالية، لكونه حجراً دافئاً للجسم، ولونه يشبه لون الشمس أو الذهب.
أهمية العنبر اللبناني وميزاته
يركز علم الباليونتولوجيا، وفق عازار، على دراسة تطوّر الكائنات الحية من حيوانات النبات وغيرها من الأشكال الأخرى للحياة عبر السنين والعصور من خلال دراسة بقاياها المتحجرة التي عاشت في الأزمنة الغابرة. يشرح عازار أنّ العنبر أو الصمغ النباتي المتحجر يحفظ بقايا الحيوانات أو الحشرات أو النباتات، أي بقايا الحياة بشكل رائع، نقيّ، ثلاثي الأبعاد، وكامل، وبأدق التفاصيل وهذا ما يميّز العنبر الذي لا يحفظ، في المقابل، المادة الوراثية او الحمض النووي الصبغي.
ويعتبر لبنان غنياً بمادة العنبر، ويضم نحو 450 موقعاً من العنبر على امتداد الأراضي اللبنانية من الشمال إلى الجنوب باستثناء بعض المناطق مثل قضاءَي صيدا وصور، وتشكل المساحات التي تحوي العنبر نحو 10 في المائة من الأراضي اللبنانية. وحتى عام 2013، كان العنبر اللبناني الأقدم في العالم، إذ يعود إلى 130 مليون عام. لكن، في ذلك العام اكتُشِف موقع أقدم في إيطاليا، لكن هذا الموقع لا يضم سوى نسبة قليلة من البقايا الحية، لذلك، ما زال العنبر اللبناني يعتبر ذا ميزة أكبر لناحية غناه ببقايا الحياة. يوضح عازار أنّ العنبر اللبناني لا تقتصر أهميته على أقدميته، بل تعود أهميته في علم التطور إلى كونه يتزامن مع ظهور النبات المزهر أو الكاسيات في الحياة. يشكّل النبات المزهر نسبة ثلاثة أرباع النباتات الحالية الموجودة على الكرة الأرضية، ويتزامن تطوّره مع تطوّر الحشرات التي تلقح نسبة تسعين في المائة من هذه النباتات. وبالتالي، يعتبر العنبر اللبناني ركيزة أساسية في فهم تطور الحياة والتنوع البيولوجي والبيئة على مستوى العالم، مع الإشارة إلى أنّ قيمته علمية، من دون أن تكون اقتصادية.
اكتشاف موقع جديد
في أواخر فبراير/ شباط الماضي، اكتشف البروفيسور داني عازار، والباحثة في علم الجيولوجيا في الجامعة اللبنانية، الدكتورة سيبال مقصود، والناشط في مجموعة "درب عكار" خالد طالب، في بلدة مشمش، بمحافظة عكار، شمالي لبنان، أول موقع عنبر في هذه المنطقة يحتوي على بقايا حياة لأربع حشرات يعود عمرها إلى 130 مليون عام، أي إلى العصر الطباشيري السفلي.
ونشرت هذه المعطيات العلمية في المجلة العلمية المحكمة "باليانتومولوجي (علم الحفريات القديمة)". وتشكل هذه المعطيات العلمية، وفق عازار، أداة رئيسية لفهم طبيعة هذه المنطقة التي كانت تمتد على خط الاستواء في الماضي، ولدراسة الخصائص المناخية التي كانت سائدة، والتنوع البيولوجي الذي كان موجوداً هناك.
يشدّد عازار على أنّ هذه المواقع تشكّل إرثاً طبيعياً عالمياً وقيمة علمية مهمة لجميع الباحثين والعلماء في مختلف أنحاء العالم الذين يحاولون فهم تطوّر الحياة وخصائصها، ومن المفيد القيام بالمزيد من الدراسات واستخراج كميات أكبر من العيّنات من هذه المواقع التي تهمّ العالم أجمع. ويدعو عازار إلى ضرورة المحافظة على هذه المواقع وحمايتها من مخاطر الكسّارات (استخراج الصخور من الجبال لاستخدامها في البناء)، باعتبارها محميات جيولوجية تحفظ معلومات علمية قيّمة لجميع البشرية من دون أن تكون حكراً على لبنان وحده.
ويوصي عازار بضرورة تحويل هذه المواقع إلى نقاط تجذب المهتمين والسائحين من خلال إقامة مراكز أو متاحف تشرح لهم أهمية هذه المتحجرات وإرثها الطبيعي العالمي، ما ينعش المنطقة سياحياً وتنموياً، وما يعزّز الثقافية العلمية عند الزائرين والمجتمعات المحلية.