حين طرح دوستويفسكي (1821-1881) ذلك السؤال الفلسفي العميق "ماذا لو كان العنكبوت الذي قتلته في غرفتك يظنّ أنك رفيقه في السكن؟"، لم يكن يدرك أنّ من قواعد العيش التي كانت في بيت جدي ألا تمتدّ يدك إلى عنكبوت لتقتله أو تخرّب بيته، وإلا سوف تُحرم من عطاياه المحبّبة التي تشمل إلى جانب قطع الحلوى تلك الحكايات الشيقة التي يقصد أن يرسم من خلالها خارطة طريق لحياة مشبعة بالحكمة.
على الرغم من الهلع الذي يسبّبه الظهور المفاجئ للعنكبوت، فإنّ الخبراء يدعون إلى عدم قتله لأنّه يكافح الآفات، خصوصاً تلك التي تضرّ بالإنسان، حتى أنّ ثمّة نوعاً من العناكب الأفريقية لا يأكل إلا البعوض المشبع بالدم. ويأكل العنكبوت الواحد ما مقداره كيلوغرامَين من الحشرات في العام. وهو يحافظ من خلال ذلك على التوازن البيئي في المنزل، ولا سبب يدعو إلى قتله لأنّه يخاف من البشر ولا يبادر إلى الإضرار بهم أو اعتراض طريقهم.
ويربط بعض الناس ما بين وجود العنكبوت في البيت والسحر، إلا أنّ العلماء نفوا الأمر مؤكّدين أنّه من المخلوقات التي تُعَدّ صاحبة دور في الحياة، أي أنّه لم يُخلق عبثاً. وفيما ينصح أشخاص بالتخلص منه من خلال عدد من الوسائل، يرى آخرون أنّه لا ضير في وجوده، خصوصاً أنّه يحاول دائماً أن يبقى بعيداً عن أعين الناس وفي الأماكن المظلمة. فقد جاء في دراسة نشرها الموقع الألماني "فيركور" وأشرف عليها البروفسور آدم هارت من جامعة "غلوسيسترشاير" البريطانية، بعد تحليل عشرة آلاف تسجيل للعناكب في 250 موقعاً مختلفاً في بريطانيا، أنّ العنكبوت يبدأ نشاطه بعد الساعة السابعة والنصف مساء، فيما ينحصر نشاطه الصباحي بين السادسة والثامنة.
ويكثر ظهور العناكب المنزلية في شهرَي سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول، أي في موسم التزاوج، فتنتشر الإناث على الأسقف والأبواب والنوافذ. وتساعد المهملات والفتحات والشقوق وعدم الاهتمام بالنظافة على وجود العناكب المكثّف. كذلك يشكّل الغبار على الجدران والأثاث والكتب وورق الصحف بيئة جاذبة للعنكبوت، إذ إنّ ذلك مؤشّر لوجود البقّ والنمل اللذَين يتغذّى عليهما.
العنكبوت مثله مثل كلّ المخلوقات يدافع عن نفسه حين الشعور بالخطر، فيلدغ الإنسان. وثمّة أنواع سامة كأرملة أنثى العنكبوت السوداء، التي تتسبّب لدغتها في تشنّجات حادة في البطن.
قبل أيام، تابعت فيلماً علمياً يحكي حياة أحد أنواع العناكب الأفريقية. إلى جانب دقة التصوير وسلاسة المادة العلمية، أبهرني الإبداع المتناهي في نسج العنكبوت لشبكة الصيد، وتكتيكاته في القبض على الفرائس. لكنّ ثمّة نوعاً اكتُشف في مدغشقر في عام 2009، أثبت أنّه قادر على نسج شبكات تصل مساحتها إلى 28 ألف متر مربّع، ويسمّى "داروين باركر العنكبوت". وهذا العنكبوت هو من أنواع عنكبوت اللحاء، وتستطيع شبكته الإمساك بالطيور، إذ يُعَدّ الحرير الذي يفرزه أقوى المواد البيولوجية المعروفة للإنسان.
*متخصص في شؤون البيئة