بعدما عملت عشر سنوات في مجلة روسية متخصصة بالعلوم والثقافة والتاريخ في موسكو، اضطرت الصحافية والكاتبة ماريانا ريبو (34 عاماً) إلى الاستقالة من وظيفتها بسبب ضغوط من إدارة المجلة نتجت من موقفها الرافض للعملية العسكرية الروسية التي أطلقت ضدّ أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي.
تروي ريبو التي تحمل درجة دكتوراه في الفلسفة تجربتها لـ"العربي الجديد"، وتقول: "لم أمارس يوماً أي نشاط سياسي في موازاة مهنتي التي عملت فيها في كتابة مقالات ثقافية وتاريخية، وإجراء حوارات مع علماء وتغطية مختلف الفعّاليات الثقافية. لكنني بدأت منذ عام 2017 أعبر عن مواقفي السياسية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، من دون أن يثير ذلك أي تساؤلات حتى بدء الأحداث الأخيرة. وفي اليوم الأول من العملية في أوكرانيا، نشرت تعليقاً للتنديد بالحرب ورفضها، علماً أنّ أحداً في ذلك الوقت لم يتوقع أن يبدأ القمع بهذا الشكل، وفرض غرامات لمجرد استخدام مصطلح الحرب. كما وقعت على خطاب جماعي لأدباء رفضاً للحرب، ودعوت المجلة التي أعمل فيها إلى الانضمام إليّ، لكنّ زملائي رفضوا ذلك في شكل قاطع، وتبين أنهم يدعمون الحملة العسكرية".
وفي 26 فبراير/ شباط الماضي، تلقت ريبو اتصالاً هاتفياً من رئيس تحرير مجلتها الذي أبلغها بأنّه اطلع على حساباتها على شبكات التواصل الاجتماعي، وطالبها بحذف ما نشرته، فأبلغته بأنّها ستستقيل، وتركت عملها من دون أن تحظى بأيّ تضامن أو دعم من زملائها الذين سارعوا إلى النأي بأنفسهم عن قضيتها، رغم أنّها أبقت علاقتها الطيبة معهم. وتعلّق: "فقدت وظيفتي، لكنّ ذلك لم يمنعني من مواصلة التعبير عن موقفي الرافض للحرب سواء على حساباتي على شبكات التواصل الاجتماعي أو على موقع يوتيوب. بالطبع سأضطر إلى توخي الحذر الآن وانتقاء الألفاظ بدقة في ظل ظروف القمع المروع التي قد تجعلني أواجه عقوبة مالية على استخدام كلمة أو حتى السجن".
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقّع مطلع مارس/ آذار الماضي على قانون المسؤولية الجنائية عن الأخبار الكاذبة المتداولة عن أعمال العسكريين الروس، والترويج للدعوات إلى فرض عقوبات على روسيا. وتتراوح العقوبات بموجب القانون الجديد بين فرض غرامات مالية، والسجن 15 عاماً في حال أسفر نشر الأخبار الكاذبة عن عواقب وخيمة.
وفي إطار العقوبات الروسية المرتقبة على المعارضين الروس في المرحلة المقبلة، لا يستبعد أن يفتح انسحاب روسيا من مجلس أوروبا إثر تدهور علاقاتها في شكل غير مسبوق مع الغرب مع بدء عمليتها العسكرية في أوكرانيا، نقاشات واسعة في البلاد حول إعادة تفعيل تطبيق عقوبة الإعدام التي لا يزال يتضمنها القانون الجنائي الروسي، رغم تعليق تطبيقها حين انضمت موسكو إلى المجلس عام 1996.
ويجدد المجتمع الروسي عادة مناقشة مسألة إعادة تفعيل عقوبة الإعدام، بعد حدوث جرائم تثير ضجة كبيرة في الرأي العام والتي قد تسفر عن سقوط ضحايا أطفال، أو جرائم قتل جماعية، لكنه أثير هذه المرة بعد انسحاب روسيا من مجلس أوروبا، وأظهر عدم وجود إجماع في شأن جدوى تفعيل عقوبة الإعدام، وتشكيك حقوقيين في أن يقلص الخوف من الإعدام عدد الجرائم بالغة الخطورة.
"رقابة الحرب" تحجب الإعلام المعارض
ومنذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، توقفت كلّ وسائل الإعلام ذات التوجهات الليبرالية والمعارضة التي تتخذ من داخل روسيا مقراً عن البث والصدور، وبينها إذاعة إيخو موسكفي، وقناة دوجد، وصحيفة ريبابليك الإلكترونية، وصحيفة نوفايا غازيتا. وربطت هذه الخطوات بالتضييق عليها، وتعذر العمل في ظروف "رقابة الحرب".
وحتى بعيداً عن قطاع الإعلام، يؤكد مدير منظمة تحالف المعلمين غير الحكومية في سان بطرسبرغ، دانييل كين، رصد منظمته حالات تضييق وملاحقات وفصل معلمين أعلنوا صراحة رفضهم غزو أوكرانيا. ويقول كين الذي حبس إدارياً لمدة نحو أسبوعين بسبب مشاركته في فعّالية لمناهضة الحرب في سان بطرسبرغ، لـ"العربي الجديد": "رصدنا حالات للضغط على المدرسين كي يستقيلوا، ورُفعت قضيتان إداريتان بتهمة تشويه صورة القوات المسلحة، إحداهما بسبب منشور على الإنترنت، والثانية بسبب تنظيم دروس تعارضت مع التوجيهات الممنوحة" في إشارة إلى الدروس التي نظمت في مدارس روسية حول السياق التاريخي للأزمة الأوكرانية مباشرة بعد بدء العملية العسكرية الروسية. ويلفت أيضاً إلى رفع قضية جنائية بسبب منشور على "إنستغرام"، وعدد كبير من وقائع إجبار المدرسين على تنظيم دروس حول أوكرانيا رغم اعتراضهم على ذلك.
استبعاد رافضي الحرب
واللافت أن التضييق على رافضي الحرب لم يقتصر على المواطنين العاديين، بل شمل أيضاً شخصيات مرموقة من أصحاب المكانة في المشهدين العلمي والسياسي الروسي، إذ قرر الرئيس بوتين في 28 مارس/ آذار الماضي استبعاد أربعة خبراء بينهم موظفون في معاهد أكاديمية العلوم الروسية من تشكيلة المجلس العلمي التابع لمجلس الأمن الروسي، وهم الباحث في معهد الولايات المتحدة وكندا، ألكسندر بانوف، والمشرف العلمي في المعهد ذاته التابع لأكاديمية العلوم الروسية سيرغي روغوف، ومدير معهد أوروبا أليكسي غروميكو، ومدير مركز الأمن الأوروأطلنطي التابع لمعهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية ألكسندر نيكيتين.
وغروميكو هو حفيد الديبلوماسي السوفييتي الشهير أندريه غروميكو الذي تولى عام 1946 منصب أول مبعوث سوفييتي لدى الأمم المتحدة، والذي أطلق عليه الغرب لقب "السيد لا" بسبب تكراره استخدام حق النقض (الفيتو) للدفاع عن المصالح السوفييتية، قبل أن يعيّن وزيراً للخارجية في مرحلة لاحقة والذي شغل مهماته نحو ثلاثة عقود من عام 1957 حتى عام 1985. لكن مكانته العريقة في تاريخ الدبلوماسية لم تساعد حفيده الذي وقع مطلع مارس/ آذار الماضي على بيان طالب بخفض مخاطر المواجهة العسكرية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (ناتو) في أوروبا.
وطنية وأقلية
ودفع هذا الوضع غير المسبوق الصحافة الروسية إلى التساؤل عما إذا كان التضييق سيتوقف بعد انتهاء العملية العسكرية في أوكرانيا، أو إذا كانت روسيا قد عادت إلى الشمولية السوفييتية بلا رجوع.
وفي مقال بعنوان "عن خطر العودة إلى الاتحاد السوفييتي وفق نموذج الثمانينيات" اعتبرت صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا الروسية أنّه بعد تحقيق السلام الذي تجلت ملامحه أثناء المفاوضات الروسية الأوكرانية في إسطنبول الأسبوع الماضي، يصبح السؤال عما سيحدث للسياسة الداخلية بعد العملية الخاصة أمراً ملحاً لروسيا". ولفتت الصحيفة إلى أنه "رغم أن العملية الخاصة أهم القضايا، يصعب تصوّر إجراء نقاش شامل حولها علناً. وفي جوهر الأمر، تقبل السلطات فقط إظهار الدعم الشامل والتأييد النشيط أو الموافقة الضمنية على الأقل، أما الموقف المعارض فيهمش من يتبناه فوراً، ما يقسّم سكان البلاد بين وطنيين وخونة".
وكان المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف صرّح سابقاً بأن "من لا يدعمون العملية الخاصة يشكلون أقلية، والكرملين يأمل في أن يفهم هؤلاء الأشخاص ما يجري، ويميزوا سيول الكذب القادمة من الغرب".
وتشير بيانات مركز عموم روسيا لإحصاءات الرأي العام، وهو حكومي، إلى أنّ نسبة تأييد العملية العسكرية الروسية ارتفعت من 65 في المائة في 25 فبراير/ شباط الماضي، إلى 74 في المائة بحلول 17 مارس/ آذار الماضي، في مقابل تراجع نسبة المعارضين من 25 إلى 17 في المائة. وفي حديث إلى صحيفة فيدوموستي الروسية تزامن مع نشر نتائج الاستطلاع، اعتبر نائب رئيس مركز الدراسات السياسية أليكسي ماكاركين أنّ "هذه الموجة من الوطنية أمر طبيعي عند بدء النزاعات، بتأثر مفعول الالتفاف حول العلم، وفي ظروف عدم تحول الوضع الاقتصادي المتفاقم إلى عامل مزعج للسكان بعد".