النواعير في العراق شاهدة على ثقافة بلاد عمرها آلاف السنين. حكاياتها لم تتوقف رغم أن عملها تجمّد، فهي تعيش دائماً في قلوب سكان مُلهَمين بسحرها، ويريدون تخليدها في قائمة التراث العالمي. لا يمكن تجاوز النواعير لدى الحديث عن نهر الفرات الذي يخترق أراضي مدينة الأنبار غرب العراق، فالنهر يرتبط بالنواعير منذ آلاف السنين في المنطقة، ما جعله أحد أبرز سمات التراث العراقي.
والنواعير، ومفردها ناعور، آلة دائرية كبيرة تصنع من أشجار خاصة تثبّت على النهر وتتصل بها أوان فخارية تحمل الماء عند دوران الناعور لتسكبه في ساقية خاصة تصل إلى سكان القرى والأراضي الزراعية، تمهيداً لاستخدامه في شرب السكان والحيوانات وري المزروعات.
وتعمل النواعير بتأثير الماء الذي يدفعه التيار في النهر أو بواسطة الحيوانات، فيما أوقَفَ الاعتماد على الماكينات الآلية التي تعمل بالوقود عمل النواعير منذ سبعينيات القرن العشرين، لأنها تضخ الماء بسرعة أكبر وكلفة أقل، مع سهولة في الاستخدام وعدم أخذ مساحات واسعة سواء داخل النهر أو على اليابسة، وهو الحال مع النواعير.
لكن رغم ذلك تبقى النواعير رمزاً تراثيا لمناطق قديمة تقع على جانبي النهر في محافظة الأنبار، مثل هيت وحديثة وعنة وراوة والبغدادي وجبة وآلوس والقائم، ويعود بعضها الى آلاف السنين، في وقت يحرص مسؤولو هذه المناطق وسكانها على النواعير واستمرار وجودها، إذ يحاولون بالتعاون مع الجهات الحكومية إدراج النواعير في قائمة "يونسكو" للتراث العالمي غير المادي للبشرية، باعتبار أن "دورها بارز في الحفاظ على ثقافات الأمم والشعوب".
هيثم الكيلاني، مدير شعبة "بيت هيت" الثقافي التابعة لوزارة الثقافة العراقية، تحدث لـ "العربي الجديد" عن دور البيت الثقافي في إدارة واحتضان ورشة عمل أفضت إلى تشكيل لجنة لإعداد ملف ترشيح حرفة صناعة النواعير لإدراجها ضمن لائحة "يونسكو" للتراث الثقافي غير المادي للبشرية. وأشار إلى أن الورشة ضمّت أكاديميين ومثقفين وحرفيين ومتخصصين في صناعة النواعير، وهم عقدوا طوال أكثر من سنة اجتماعات أسبوعية لإعداد الملف.
ولفت الكيلاني إلى أن "البيت الثقافي في هيت نفذ الخطوة الأولى نحو تحريك ملف النواعير، عبر تقديم بحث مفصل عن صناعتها ومناقشة الفكرة مع متخصصين، مع إجراء درس مستفيض لملفات مماثلة، وكيفية تحقيق هدف قبول ملف ترشيح النواعير، ولو مبدئياً، حتى إكماله".
وذكر الكيلاني أن وزارة الثقافة والسياحة والآثار دعمت ترشيح النواعير لقائمة "يونسكو". وأجرت لجنة إعداد الملف استشارات ميدانية والتقت حرفيين متخصصين بهذه المهنة، ودققت في كل الأعمال المرتبطة بها حتى إنجاز الملف الذي جرت ترجمته، مع أخذ تواقيع كل فئات المجتمع من مؤسسات حكومية وأكاديميين ومنظمات للمجتمع المدني وحرفيين ماهرين واصحاب صناعات يدوية وفلاحين ومهتمين بهذه المهنة، ومحبي التراث".
وشدد على أن "أعضاء اللجنة تحدّوا كل الظروف والصعوبات لبلوغ الهدف المنشود، وإكمال إنجاز الملف في وقت قياسي، وإظهاره بأبهى صورة قبل إرساله الى لجنة يونيسكو للتراث الثقافي غير المادي للبشرية التي ستصوّت عليه نهاية العام الجاري".
ويصف فنانون النواعير بأنها "ذات منظر ساحر تعطي تناغماً بين لون الخشب المصنوعة منه والحجر الذي تستند عليه، وبين الشكل الهندسي المعروف الذي يُميّزها وماء نهر الفرات المعروف بنقائه ولونه الأزرق".
الرسام محمد حسن الذي يسكن منطقة الأنبار أبلغ "العربي الجديد" أن أصدقاءه الرسامين، وهم من محافظات مختلفة، يحرصون لدى زيارته على قضاء ساعات طويلة قرب النواعير، ورسمها. وقال: "اعتدت المبيت مع أصدقائي في قرى تقع على نهر الفرات كي نرسم النواعير والبيئة المحيطة بها. وليس شرطاً ان يكون لك أصدقاء أو أقارب لتمضية يوم أو أكثر في القرى الواقعة على الفرات، حيث تكثر النواعير، فالجميع يرحبون بالضيوف والغرباء".
سكان القرى الواقعة على جانبي الفرات هم أكثر العراقيين حماسة لإدراج نواعيرهم على قائمة "يونسكو"، إذ يعتبرونها رمزاً لتراثهم وثقافتهم. وتتعدد حكاياتها معهم، وهم يساهمون أيضاً في الحفاظ عليها وإبقاء ديمومتها.
حسين الحديثي الذي يملك بستاناً قريباً من النهر في منطقة حديثة، يقول لـ "العربي الجديد" إنه فضلاً عن معارفه الذين يقطعون مسافات بعيدة من محافظات عراقية كي يستمتعوا بما تجود به الطبيعة على الإنسان في قراهم المحاذية للنهر، فهو يستقبل غرباء يأتون للغرض نفسه. يضيف: "بدأت الحياة تعود إلى حالها السابق بعد طرد تنظيم داعش من الأنبار نهاية 2017. منظر البساتين والحدائق المطلّة على نهر الفرات والنواعير تجذب الناس لقضاء وقت ممتع. ونحن نرحب بالزوار، فهذا يزيد حظوظ مناطقنا وقرانا كي تكون مراكز لجذب السياح، وهو ما يصب بالتأكيد في صالحنا".
وفي حين يرى الغرباء جمال النواعير بدوائرها الخشبية الكبيرة التي تعانق مياه النهر، ويلتقطون صوراً لها ويبثون مقاطع مصوّرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يقول سكان هذه المناطق إنه "لو سكن هؤلاء الضيوف قرب النواعير لزاد حبهم لها، وتعلقهم بها وصداقتهم الحميمة معها".
ورغم أن منزل سعد نايف (52 عاماً) يبعد مسافة خمسة كيلومترات عن أقرب النواعير، لكنه يحرص دائماً على الذهاب إلى ناعور لبيت جده، لكي يشكي همومه ويفرّغ ما في صدره لـ "صديقه الحميم"، في إشارة إلى الناعور القديم الذي لم يعد يعمل منذ أكثر من ثلاثين سنة. يقول نايف لـ "العربي الجديد": أمضيت طفولتي وصباي في بيت جدي، وكان موقع الناعور المكان المفضل لي ولأبناء عمومتي من أجل اللعب والتنزه". ويضيف: "أشعر ان الناعور يسمعني. حين أنظر إليه وأقضي بعض الوقت قربه أحس بأنه يمنحني قوة وشجاعة وصبراً. هذا ليس شعوري وحدي، بل جميع من يسكنون أو سكنوا قرب النواعير. لذا أساعد أقاربي دائماً في ترميم بناء الناعور، رغم أنه لم يعد صالحاً للاستخدام، لأننا نعتبره جزءاً منا".
ولا شك في أن النواعير ترتبط بسكان مناطقها بقصص وذكريات كثيرة يرفضون أن يتخلوا عنها. إذ لا يزالون حتى اليوم ينسجون أغانيَ ومواويل عنها وعن صوتها الذي لا يتوقف ما دام النهر جارياً.
وخلال فترة انقطاع التيار الكهربائي عن هذه المناطق، أعيد العمل بعدد منها، ووفرت المياه للشرب والمزروعات، وهو ما اعتبره السكان دليلاً على أنه لا غنى عنها.
ويقوم ناشطون في مدينة هيت وحديثة ومدن أخرى أعالي الفرات بحملة لإعادة إعمار النواعير، بدعم من وزارة الموارد المائية. وقد استعان بعضهم بكبار السن للإفادة من خبراتهم في صنع النواعير وتركيب قطعها الخشبية وبناء هيكلها الخارجي، رغم وجود نجارين ماهرين برفقتهم، باعتبار أن "النواعير تملك روحاً لا يعرف التعامل معها إلا من عاش وسطها، وتفاعل مع حركة دورانها وصوتها ومائها".
وهناك أكثر من خمسة مواقع للنواعير في مدينة هيت، يضم كل منها نحو ستّة نواعير ومواقع أخرى تضم طواحين كانت تستخدم في طحن الحبوب، و80 موقعاً في مدينة حديثة، يضم كل منها بين 2 إلى 6 نواعير.
ويعتقد باحثون أنّ تاريخ اختراع الناعور يعود إلى الحضارتين السومرية والبابلية، حين كان المزارعون في حاجة ماسة لري مزارعهم البعيدة نسبياً عن ضفاف الأنهار، فكان هذا الاختراع.