امتيازات الحريديم.. أزمة إسرائيلية قديمة فاقمها "طوفان الأقصى"

31 مارس 2024
يعتبر الحريديم التعليم الديني أهم من التجنيد (مصطفى الخروف/الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الحريديم في إسرائيل، الذين يشكلون 13.6% من السكان، يعيشون حياة معزولة متمسكين بتفسيراتهم للتوراة ونمط حياة محافظ، معتمدين اقتصاديًا على النساء العاملات بينما يتفرغ الرجال لتعلم التوراة ويرفضون الخدمة العسكرية.
- تأثيرهم السياسي والاجتماعي واضح، خصوصًا في قضايا مثل رفض قانون التجنيد، مما يثير توترات وجدلًا حول مساهمتهم في الاقتصاد والدفاع الوطني، ويحصلون على تمويل حكومي كبير لمعاهدهم الدينية.
- شهد المجتمع الحريدي تغيرات مثل انخفاض نسبة الفقر وارتفاع متوسط الدخل بفضل زيادة العمالة، لكن يواجهون ضغوطًا للاندماج أكثر في الخدمة العسكرية والاقتصاد، مما يثير نقاشات حول دورهم وتأثيرهم السياسي.

تبلغ أعداد اليهود "الحريديم" في إسرائيل أكثر من 1.3 مليون نسمة، ما نسبته 13.6 في المائة من عدد السكان، ولهم حياتهم الخاصة التي تتميز بانعزال كبير عن سائر المجتمع. ورغم عددهم القليل نسبياً، إلا أن تأثيرهم كبير، وقد ظهر ذلك جلياً خلال جائحة كورونا، حين رفضوا قرارات السلطات الصحية، كما ظهر أيضا في تشكيل الحكومة الحالية. لكنهم عادوا إلى الأضواء بقوة خلال الأيام الأخيرة على خلفية أزمة "قانون التجنيد"، إذ يرفض سوادُهم الأعظم الالتحاق بالخدمة العسكرية.
في الأول من إبريل، ينتهي أمرٌ مؤقت صدر قبل سنوات بإعفائهم من الخدمة العسكرية الإلزامية، وقد تصاعد غضبهم في أواخر الأسبوع الماضي، ضد قرار للمحكمة العليا بوقف التمويل الحكومي لعدد من المعاهد والمدارس التوراتية التي لا يخدم طلابها في الجيش.
ويعيش "الحريديم" في إسرائيل نمط حياة مختلفا يلتزم بالتوراة كما يفسّرونها، ويسكنون بلدات أو أحياء خاصة، وعادة ما تكون عائلاتهم كثيرة الأولاد، وأسلوب حياتهم محافظا مقارنة ببقية المجتمع، وكذلك تعليمهم وعملهم، وكثيراً ما يعتمد الرجال على عمل النساء في إعالة العائلة كي يتمكّنوا من مواصلة تعلّم التوراة، وهم يرون الجيش مفسدة للدين والأخلاق والمجتمع، ويفضّل بعضهم الهجرة حال إجبارهم على التجنيد.
في نهاية سبعينيات القرن الماضي، كان الحريديم يشكلون أقل من 6 في المائة من عدد السكان، لكن نسبتهم تضاعفت بسبب نسب الانجاب المرتفعة، ومن المتوقع وصول نسبة الحريديم إلى نحو 16 في المائة بحلول عام 2030.
ويُعرف المجتمع الحريدي بالنأي عن العالم الخارجي من أجل حماية أفراده من تسلل قيم ومظاهر ونمط حياة المجتمع العلماني، وهو يحافظ على الفصل الصارم بين الجنسين، وتجنّب العلاقات الاجتماعية بين الرجال والنساء، كما يحرص على استهلاك وسائل الإعلام "الحريدية" فقط، وغالباً ما يعادي التلفزيون. لكن السنوات الأخيرة تشهد تحولاً في حجم استخدام الإنترنت الذي بات يخترق المجتمع المنغلق على نفسه.

يعتبر الحريديم الجيش مفسدة للدين والأخلاق ويفضّلون الهجرة على التجنيد

وترى شريحة واسعة من الإسرائيليين أن الحريديم عبء على الاقتصاد، فهم يعيشون على أموال دافعي الضرائب من خلال الميزانيات والمخصصات التي توفّرها لهم الحكومة، في حين يواصلون رفض الخدمة العسكرية، حتى بعد تكشّف الحاجة إلى مجندين عقب عملية "طوفان الأقصى". ورغم محاولة جهات عدة إقناع حاخاماتهم بأهمية التجنيد لتعويض نقص الجنود، ويتردد هذا المطلب منذ سنوات، لكنه برز في الاحتجاجات ضد التعديلات القضائية التي تقودها حكومة الاحتلال لتقويض القضاء، بعد مطالبة أحزاب الحريديم بتشريع قانون يساوي بين الخدمة العسكرية وتعلّم التوراة.
وبينما يعتبر عدد قليل من الحاخامات أكثر انفتاحاً على التجنيد، يكرر كثير من الحاخامات وأعضاء الكنسيت عن الأحزاب الحريدية مطلب تشريع عدم تجنيدهم. وأثارت بعض التصريحات جدلاً في الآونة الأخيرة، منها أن الجيش يكشف المجنّدين على عوالم العلمانية، ما يشكل خطراً على التوراة وتعلّمها، كما يروّجون أن القلة من الحريديم الذين يلتحقون بالجيش لا يعودون إلى حياتهم السابقة.
وأشارت معطيات طُرحت في فبراير الماضي، خلال جلسة في الكنيست، تغيّب عنها ممثلو أحزاب الحريديم، إلى التحاق نحو 540 حريدياً بالخدمة الإلزامية في الجيش منذ بداية الحرب الحالية، من أصل 66 ألفاً حلّ موعد التحاقهم بدورة التجنيد الأخيرة، ويضاف إليهم نحو 600 حريدي فوق 26 سنة حصلوا على إعفاء سابق، وقرروا التجنّد في المرحلة التالية. 

سياسة/الحريديم/(أحمد غربلي/فرانس برس)
يرفض غالبية الحريديم فكرة التجنيد (أحمد غرابلي/فرانس برس)

ومنذ عام 2019، ظل عدد الحريديم الذين يتجندون سنوياً ثابتاً تقريباً عند نحو 1200 مجند، وعادة لا يلتحق المجندون الحريديم بالوحدات القتالية.
ومن المعتاد أن تحصل المعاهد الدينية اليهودية على ميزانيات كبيرة، لكن تلك الميزانيات ارتفعت في ظل حكومة بنيامين نتنياهو الحالية رغم التقليصات التي شهدتها الموازنة العامة، في حرص واضح على إرضاء هذه الشريحة التي تحوّل ممثلو أحزابها إلى شركاء في حكومته، فيما تعتبر فئات عدة الميزانيات التي يحصلون عليها ابتزازاً غير مستحق، وحين أقرت المحكمة العليا مقترح قانون طرحه نتنياهو لإعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، قوبل بمعارضة واسعة من داخل حكومته، وفي حزب الليكود الذي يتزعمه.
وتصل ميزانية المعاهد الدينية إلى أكثر من 1.7 مليار شيكل سنوياً، وتُمنح هذه الأموال للمعاهد التي تستخدمها في دفع مخصصات لطلابها، بحيث يقسم مجمل الميزانية على عدد الطلاب. ومع الأموال الحكومية، لدى المعاهد الدينية مصادر دخل أخرى خاصة تشمل جمع التبرعات، فيما يحصل طلابها على مخصصات أخرى من خلال مؤسسة التأمين الوطني.
ومع إصدار المحكمة العليا قرارها بتقليص الميزانية، بدأت وزارة المالية دراسة تبعاته بشأن موازنة المعاهد الدينية، وفي المرحلة الراهنة، يشمل قرار المحكمة المعاهد التي يتراوح أعمار طلابها بين 18 و26 سنة التي لا يخدم طلابها في الجيش، ويستثني المعاهد الأخرى.
وتحصل المعاهد على نحو 150 مليون شيكل شهرياً، وفي حال لم يحدث أي تغيير، تشير التقديرات إلى أن نحو ثلث هذه الأموال لن يصرف، ما يعني نحو 50 مليونا شهرياً، وقرابة 600 مليون حتى نهاية العام الحالي. وفي الفترة القادمة، يحل موعد تجنيد نحو 4 آلاف من طلاب تلك المعاهد، وعدم التحاقهم بالجيش يعني تضرر معاهدهم مالياً.

وشهد العقد الأخير انخفاضاً نسبياً في أعداد الحريديم الفقراء، مع ارتفاع متوسط الدخل الشهري لهم، في ضوء زيادة عدد النساء العاملات والرجال العاملين أيضاً، ومع هذا يظل المستوى الاجتماعي الاقتصادي متدنياً في المجتمع الحريدي مقارنة بالمجتمع العام.
وعلى الرغم من تزمّت هذا المجتمع، إلا أن النساء الحريديات يشكّلن القوة العاملة الحقيقية التي تتيح للعائلات رعاية عدد كبير من الأولاد، وتتيح لعدد كبير من الأزواج مواصلة التعلّم في المعاهد الدينية، والعمل بصورة جزئية، أو عدم العمل. ورغم العقبات الكبيرة التي تواجه تعلّم الحريديات، وتواضع نسب المتعلمات بينهن، شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعاً نسبياً في إقبالهن على علوم الحاسوب وغيرها من العلوم التي تؤهلهن للعمل في مجالات تدرّ عليهن دخلاً أكبر، وتمكّنهن من تحسين أوضاع عائلاتهن.
في عام 2023، تجاوزت نسبة النساء العاملات في المجتمع الحريدي 80 في المائة، بعدد 157 ألفاً مقابل 142 ألفاً في السنة السابقة. وبحسب المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، ارتفع متوسط الدخل الشهري للعائلات الحريدية في غضون ست سنوات بنحو 19 في المائة، لكن متوسط دخل الرجال الحريديم اليوم هو الأكثر انخفاضاً منذ عام 2003.

محتجون حريديم يغلقون طريقاً للتعبير عن رفضهم للتجنيد (مصطفى الخروف/الأناضول)
محتجون حريديم يغلقون طريقاً للتعبير عن رفضهم للتجنيد (مصطفى الخروف/الأناضول)

ويمتعض كثير من الإسرائيليين من حصول الحريديم على مخصصات حكومية كبيرة، بينما يدفعون ضرائب أقل مقارنة بغيرهم من السكان. وبحسب معطيات دائرة الإحصاء المركزية، فإن البيت الإسرائيلي يدفع في المتوسط نحو 1345 شيكل شهرياً عن كل شخص، وهو مبلغ أعلى بستة أضعاف مما يدفعه البيت الحريدي، وعند الحديث عن ضريبة الدخل ترتفع الفجوة إلى تسعة أضعاف.
في المقابل، يحصل البيت الحريدي على مخصصات ودعم حكومي بنحو 3700 شيكل شهرياً (نحو ألف دولار أميركي)، وهذا أكثر بنحو 52 في المائة عن أي بيت إسرائيلي غير حريدي، وتمثل المخصصات والدعم أكثر من ربع دخل العائلة الحريدية، مقابل 11 في المائة فقط من دخل العائلات الأخرى.
وتشير بعض المعطيات إلى علاقة وثيقة بين تلك المخصصات وبين وجودهم في الائتلاف الحكومي من جهة، ونسب الولادة العالية لديهم من جهة أخرى. على سبيل المثال، كان نحو 167 ألفاً و500 طالب مسجّل في المعاهد الدينية يحصلون على مخصصات في ظل الحكومة السابقة، وفي ظل الحكومة الحالية التي يشكلون جزءا منها، بلغت نسبة الارتفاع في عدد الطلاب الذين يحصلون على مخصصات 7.3 في المائة، وهو ارتفاع كبير جداً مقارنة مع نحو 4.1 في المائة في عام 2022، و2.5 في المائة في عام 2021.
ويعيش الطلاب الحريديم في عالمهم الخاص داخل المدارس، إذ يفتقر منهاج تعليمهم إلى العديد من المواد الأساسية، مثل الرياضيات والإنكليزية وعلوم الحاسوب. ورغم أن مدارسهم تحظى بميزانيات كبيرة من وزارة التربية والتعليم، إلا أن غالبيتها ترفض خطة أقرتها الوزارة قبل سنوات لإدخال المواد الإلزامية إلى جميع المدارس.
وفي العقد الأخير، ظهرت مدارس تدمج بين التعليم الرسمي والحريدي. ويرى كثيرون أنها قد تشكّل حلاً مستقبلياً لدمجهم في المجتمع والاقتصاد، لكن نحو 4 في المائة فقط من التلاميذ الحريديم يتعلّمون فيها، في حين ترى الأحزاب الحريدية أن المدارس الحريدية أساس لقوة لا تريد خسارتها، وتعارض بشدة مسار التعليم الهجين.

وترى أوساط مهنية إسرائيلية، أن دعم الحكومة مؤسسات تعليمية لا تؤهل لسوق العمل ولا للمواطنة، هو أمر غير قائم أو مقبول في العالم، علماً أن نحو 84 في المائة من الأطفال الحريديم يتعلّمون في هذه المدارس.
وبات نقاش قضية تجنيد الحريديم سياسياً بالدرجة الأولى مع خلفية اجتماعية واقتصادية ودينية، بينما يواصل قادة الحريديم الهجوم على قرار المحكمة، ومن قبله موقف المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهراف ميارا، والتي طالبت بالاستعداد لإلزام الحريديم بالخدمة العسكرية. لكن شرر الغضب يطاول نتنياهو أيضاً، والذي فضّل قبل الحرب المضي في خطة التعديلات القضائية قبل إقرار القانون الذي يطالب الحريديم بسنّه لمنح تعلّم التوراة مكان الخدمة العسكرية.
وقد لا تسمح القيادة الروحية لأحزاب الحريديم، مثل حزبي شاس ويهدوت هتوراة، بالبقاء في الحكومة إذا لم يتوفّر حل قانوني لأبناء المعاهد الدينية، وهو الأمر الذي يبدو بعيد المنال راهناً، فلن يوافق الوزير بيني غانتس الذي انضم إلى حكومة الطوارئ في بداية الحرب، على المقترح الذي يريده الحريديم. كما يواجه المقترح معارضة من داخل حزب الليكود، وشريحة واسعة من الإسرائيليين. لتبقى التداعيات غامضة حالياً، في حين أن منع الميزانيات عن الحريديم، ومحاولة إلزامهم بالتجنيد عنوة قد يعقّد المشهد الإسرائيلي الداخلي، ويخلق أزمات أكبر، وربما احتجاجات عنيفة، أو يؤدي إلى سقوط الحكمة، وبالتالي انتخابات جديدة.

المساهمون