لا تعتبر الخصوصية مسألة مهمة بالنسبة للصينيين كما هي حال المجتمعات الأخرى. فمن المعتاد في الصين أن ترى مراحيض عامة بلا أبواب أو فواصل، وأن تشاهد الرجال عراة في مراكز المساج بعضهم أمام بعض من دون أدنى شعور بالخجل. ومن المعتاد أيضاً أن ترى الشباب يتسكعون ليلاً في قمصان نومهم وملابسهم الداخلية. وقد علّم الشيوعيون الناس على مدار العقود الماضية تقاليد نبذ الأسرار ومشاركة كلّ شيء، لذا أصبح من الشائع في البلاد أن يتشارك أناس غرباء مأدبة طعام واحدة، أو حتى سريراً واحداً، أو استماع شخص إلى مكالمة هاتفية كأنّه طرف فيها، لأنّ المتكلم يتحدث بصوت مرتفع في مكان عام من دون مراعاة مشاعر الآخرين، أو إظهار أي حرص على فحوى ومضمون المكالمة مهما بلغت حساسيتها.
ولعلّ أبرز الظواهر والسلوكيات الشائعة التي تبرز حجم الانكشاف الاجتماعي في الصين، ما يمكن وضعه في إطار التحلل من اللياقة العامة والأدبيات البديهية، مثل التجشؤ أثناء تناول الطعام أمام الملأ. وينسحب على الذكور والإناث أيضاً العبث بالأنف والأسنان بلا أيّ مواربة، والاستلقاء والنوم في المقاهي والمطاعم التي لا تلزم مرتاديها أيّ قيد أو شرط، مثل "ستاربكس" و"ماكدونالدز".
وتتعدد ظواهر الواقع ذاته في الممارسات الحكومية التي تعزز انتهاك الخصوصية، ففي إطار سياسة صفر كوفيد لمكافحة فيروس كورونا ألزمت الدولة الشيوعية سكانها البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، تنزيل تطبيق إلكتروني على هواتفهم الخليوية يُعرف باسم "كيو آر" من أجل تتبع حالتهم الصحية، لكنه أتاح للقائمين رصد تنقلات وتحركات الأفراد داخل المدن، ومعرفة بالتالي أين يقيمون، والمرة الأخيرة التي خضعوا فيها لاختبار حمض نووي ونتيجته، ما اعتبره نشطاء انتهاكاً صارخاً لخصوصية المواطنين.
أيضاً أجبرت الحكومة الناس على تركيب كاميرات مراقبة تُعرف باسم كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة، والتي بلغ عددها 500 مليون خلال العام الماضي، وأضيفت إلى كاميرات المراقبة الحكومية التي يبلغ عددها 20 مليوناً في عموم البلاد، وتهدف جميعها إلى مراقبة حركة السكان بحجة حفظ الأمن.
وفي ظل الحديث عن انتهاك الخصوصية بسبب الثقافة التي كرسها الحزب الشيوعي، يعتقد شبان من الجيل الجديد بأن لا شيء يخجلون منه أو يخفونه عن الآخرين، ويرون أن الحياة المكشوفة تسهّل عملية التواصل الاجتماعي من دون أي مواربة. بينما يحمّل نشطاء الدولة مسؤولية إنتاج مجتمع مستباح، ويرون في ذلك هدماً للقيم والتعاليم الكونفوشيوسية، نسبة إلى الفيلسوف كونفوشيوس الذي يحظى باحترام كبير في البلاد.
يقول الطالب الباكستاني جاويد خان الذي يدرس في جامعة صن يات سن لـ "العربي الجديد": "رغم الترحيب الكبير الذي لقيته من الصينيين، فإنّ ما ينغص ذلك هو انعدام الشعور بالخصوصية، والتطفّل الدائم، والتلصص الاجتماعي عليك لمجرد أنك أجنبي، فحين أجلس في مقهى، ألاحظ كيف تتابعني النظرات التي تتجاوز حد الفضول لدرجة أشعر فيها بالضيق". يضيف: "يعتقد كثير من الصينيين أنّهم يملكون حق استباحة خصوصيات أي شخص من جنسية أخرى فيتركون مكان جلوسهم، ويأتون إليه لسؤاله عن هويته وهواياته ولغته ودينه وأكلته المفضلة، كما يلتقطون صوراً بلا إذن معه. والحقيقة أنه لو حدث ذلك في مجتمع آخر، فقد ينشب شجار لأن لا أحد يحتمل أن يكون في هذا الموقف. ومع مرور الوقت اعتدت على ذلك، وبت أفهم أن الحديث عن الخصوصية في الصين ضرب من الجنون. في النهاية عليك أن تتعايش وأن تكون جزءاً من هذه المنظومة المستباحة".
من جهتها، تعلق الباحثة في مجال الدراسات الاجتماعية لي يون تسانغ على مسألة الانكشاف الاجتماعي، وتقول لـ"العربي الجديد": "يخالف ذلك الفطرة والطبيعة الصينية التي جُبلت بتعاليم كونفوشيوس قبل 2500 عام، وترتكز على الحشمة والوقار واحترام خصوصية الآخر، وعدم التعدي على حقوق الغير. وعزت الممارسات والسلوكيات الاجتماعية الجديدة إلى المستجدات التي طرأت على حياة الصينيين خلال العقود الماضية، خصوصاً بعد التحول من الزراعة إلى الصناعة، فالطفرة التي شهدتها البلاد بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي تركت أثراً كبيراً على المجتمع، سواء على مستوى العلاقات الأسرية التي تأثرت بسياسات تحديد النسل الصارمة، أو على مستوى التواصل الاجتماعي بين الناس الذي خضع بدوره لعمليات بتر متكررة تحت عجلة الاقتصاد وأنماط الحياة الجديدة". تضيف: "لم تعد الصين تملك ترف التمسك بالعادات والتقاليد الاجتماعية القديمة، بسبب متطلبات المعيشة وضغوط وظروف العمل القاسية، ويشبه الأمر من لديه مطعم يرتاده خمسة أشخاص في اليوم الواحد، ويستطيع أن يحافظ على أصول الخدمة وضبط سلوكيات الزبائن، وهو ما لا يستطيع فعله في مكان يرتاده 50 ألف شخص يومياً، فبسبب الاكتظاظ السكاني وما ترتب على ذلك من تحديات على مستوى التوظيف وتوفير الخدمات يصبح من الصعب الحفاظ على مجتمع يتمتع بهامش كبير من الاستقلالية والحرية الشخصية، ولو كان ذلك ممكناً لما استمرت سياسة صفر كوفيد يوماً واحداً".