تتوالى الخسائر بالنسبة إلى العراقيين على أكثر من صعيد. وها هم اليوم يفقدون معلماً طبيعياً تميّزت به بلادهم، وهو بحيرة ساوة، التي اكتسبت شهرة عالمية نظراً إلى فرادتها.
لم يكن الجفاف الذي شهدته بحيرة ساوة، في جنوب العراق، حدثاً بيئياً يشبه غيره من الحوادث التي شاعت في البلاد أخيراً، من قبيل جفاف بعض مناطق الأهوار في الجنوب كذلك، أو التصحّر وتلف الأراضي الزراعية. فهذه البحيرة تتميز عن سواها بخصائص عدة. إذ بالإضافة إلى ملوحتها وخصائصها الفيزيائية الفريدة، تُعَدّ هذه البحيرة مقصداً سياحياً مهماً في العراق، فهي ترتبط بقصص من التراث والفولكلور العراقي، بعضها ذو طبيعة دينية وبعضها الآخر اجتماعي مختلف. ومن بين أكثر ما يمنح المنظر الجذاب لهذه البحيرة التي يبلغ طولها 4.47 كيلومترات وعرضها 1.77 كيلومتر، هو ارتفاع مستوى المياه فيها ما بين متر واحد وأربعة أمتار عن الأرض المجاورة لها، فضلاً عن أنّ مستوى المياه فيها أعلى من مستوى مياه نهر الفرات الذي يجاورها، بما بين خمسة أمتار وستة. لكنّ ذلك لم يشفع لهذه البحيرة، كي تنال اهتماماً من قبل الجهات المعنية، فتمنحها الاستمرار والديمومة، بل يتّهم مواطنون ومتخصصون حكومة بلادهم بإهمال هذا "الكنز".
أعلن ناشطون ومتخصصون بيئيون أخيراً جفاف بحيرة ساوة، وقد وصل الأمر بالناشط البيئي، ظفر الشمري، إلى حدّ وصف ما حصل بالموت. وفي تدوينة له، كتب الشمري: "بهذه السطور أعلن عن وفاة بحيرة ساوة وجفافها عن عمر امتدّ من عصور ما قبل التاريخ إلى عام 2021، بعدما كانت معجزة طبيعية، أضحت اليوم أثراً بعد عين بسبب تجاوز العامل البشري الصناعي على محيطها الجيولوجي واستنزاف الخزانات الجوفية للبحيرة لإنتاج الملح عبر استهدافها بالآبار العميقة والمضخات الكبيرة يومياً". وكانت تحذيرات كثيرة قد سبقت ذلك الإعلان، أشار فيها خبراء عراقيون إلى احتمال جفاف البحيرة. وفي إيجاز صحافي، قال سكرتير تجمع حماية البيئة والتنوع البيولوجي في العراق (منظمة مدنية) أحمد حمدان الجشعمي، قبل أيام، إنّ "بحيرة ساوة معلم بيئي وتاريخي وتراثي مهم، تتعرض للإهمال من قبل الجهات المسؤولة عنها" عازياً انخفاض المياه فيها إلى أسباب عدة، منها حفر مئات آبار المياه الجوفية بالقرب منها بالإضافة إلى التغيرات المناخية التي تعرّضت لها البلاد.
وطبيعة البحيرة كانت سبب تصنيفها من بين الغرائب الطبيعية في العالم، وقد اختلفت الدراسات حول نشأتها. ففي حين أشارت بعضها إلى أنّها جزء من البحر الذي كان يغطي نصف أراضي العراق على امتداد بحر الخليج قبل آلاف السنين، بقيت كلّ هذه الفترة محافظة على مستوى مياهها الثابت. لكنّ دراسات أخرى، وهي الغالبة، تفيد بأنّ البحيرة تتغذى من نهر الفرات إذ تصل المياه إليها عبر الصدوع.
بالنسبة إلى الخبير البيئي أحمد الدراجي، فإنّه "كان يتوجّب تسجيل بحيرة ساوة كأعجوبة عالمية" مشيراً إلى أنّ مياه البحيرة تتحوّل الى حجارة كلسية حين تنقل إلى خارج نطاقها. يضيف الدراجي لـ"العربي الجديد" أنّ "بعثات عديدة، من بينها بعثات أجنبية، أغرتها غرائبية هذه البحيرة، فأعدّت دراسات عدّة حولها، لا سيّما أنّ موقع البحيرة بيئة صحراوية شديدة الحرارة صيفاً ويعيش فيها نوع واحد من الأسماك العمياء الصغيرة". ويتابع أنّ "الملوحة في البحيرة تُعَدّ من الأعلى بين البحيرات المالحة في العالم، إذ تصل نسبتها إلى 1600 جزء في المليون".
من جهة أخرى، فإنّ كثيرين يعدّون البحيرة مكاناً مباركاً، ولها رمزية عقائدية لدى طيف واسع من العراقيين، إذ يُقال إنّها جفّت في يوم ولادة النبي محمد. ويوضح عمر الحيالي، وهو باحث في التراث العراقي، أنّ "الروايات المتواترة تشير إلى أنّ جفاف بحيرة ساوة من بين المعجزات التي وقعت مبشّرة بولادة النبي محمد، وهو ما يفسّر الاهتمام الشعبي الواسع في العراق بهذه البحيرة. فكثيرون يعدّونها مصدراً للبركة والخير، وكثيرون يزورونها بهدف طرد النحس، ومنهم من يحمل معه حجارة منها لوضعها في منزله لتلك الغاية". يضيف الحيالي لـ"العربي الجديد" أنّ "ما يعزز اعتقاد الناس بأنّ بحيرة ساوة مباركة هو أنّها تشفي المرضى الذين يستحمون بمائها من أمراض جلدية". ويشير الحيالي من جهة أخرى إلى أنّ "ارتباط جفافها بولادة النبي وسقوط دولة فارس، فانشق إيوان كسرى وانطفأت نار المجوس، بحسب ما تقول الروايات، يجعل البحيرة نذير شؤم للإيرانيين. وإلى جانب الروايات، هذا ما يؤكده إيرانيون في أثناء زياراتهم المراقد الدينية الموزعة في مختلف محافظات البلاد. وقد نُقل عنهم أنّهم يعدّون بحيرة ساوة مسبباً لإصابة الإنسان بالهمّ والطالع السيئ".
وفي ما يخصّ جفافها، فقد كشفت دائرة المهندس المقيم في وزارة الموارد المائية، في تصريح صحافي، عن سبب جفاف البحيرة، شارحة أنّ "حركة الصفائح التكتونية والزلازل التي حصلت في مناطق شمال شرق العراق منذ عام 2016، حتى اليوم، والتي وصلت توابعها إلى محافظة السماوة أدّت إلى انسداد المجاري تحت السطحية التي تغذي بحيرة ساوة، ما أدّى إلى جفافها". وأشارت إلى أنّ "وزارة الموارد المائية على اتصال مباشر مع الجهات العالمية، لا سيّما جامعة فرايبورغ، الألمانية، التي زار مبعوثوها المكان أكثر من مرة، وقامت فرقها بالغطس لمعرفة طبيعتها وتوصلت إلى نتائج مهمة". أضافت الدائرة أنّ "إعادة الحياة إلى البحيرة لا يمكن إلاّ من خلال جهات عالمية تملك أجهزة متخصصة في هذا المجال، فضلاً عن توفر الأموال اللازمة لهذا العمل".
لكنّ مواطنين عراقيين، خصوصاً من سكان محافظة السماوة، يتهمون الجهات الحكومية بالوقوف وراء جفاف البحيرة، بحسب ما يشير نوفل المياحي، وهو من سكان السماوة. ويقول المياحي، وهو صحافي عمل في وسائل إعلام محلية عدّة، لـ"العربي الجديد"، إنّ "بحيرة ساوة تمثل قيمة كبرى عند سكان السماوة الذين يعدّونها واجهة مهمة تمثّل مدينتهم. لذلك هم أكثر انزعاجاً وألماً تجاه ما وصلت إليه حال ساوة". يضيف أنّ "الجميع في السماوة يظنّ أنّ ثمّة إهمالاً من قبل الجهات الحكومية أدّى الى جفاف البحيرة"، متابعاً أنّه "يُشار في هذا الإطار إلى آبار عدّة تمّ حفرها في خلال السنوات الماضية بالقرب من البحيرة لاستخراج الملح، وكان على الحكومة منعها لأنّها تسبّبت في نقصان مياه البحيرة". ويتابع المياحي أنّ "من أسباب اتهام المواطنين للجهات الحكومية بإهمال متعمّد للبحيرة هو إهمال الطريق المؤدّي إليها وهدم الاستراحات التي كانت مبنية بالقرب منها لأنّها لم تعد صالحة، بينما البحيرة ما زالت مقصداً للزائرين، خصوصاً من سكان السماوة الذين يقصدونها للتنزه والعلاج بأملاحها". ويؤكد المياحي أنّ "الزائرين يأتون كذلك من مختلف محافظات العراق، للعلاج من أمراض جلدية بشكل خاص. فأملاحها الكبريتية توصف لعلاج حالات مرضية عديدة، وهو ما يفرض على الحكومة المحلية في السماوة الاهتمام بالبحيرة".
يُذكر أنّ البحيرة توفّر، من جهة أخرى، فرص عمل لأبناء السماوة، بحسب ما يقول شاكر العلي، وهو خبير اقتصادي يؤكد "أهميتها الاقتصادية للبلاد عموماً". ويشدد العلي لـ"العربي الجديد" على أنّ "الاهتمام بالبحيرة سوف يعيد أهميتها الاقتصادية لتوفر دخلاً إضافياً للعراق" مشيراً إلى أنّ "تلك الأهمية تعود لما تتميز به من خصائص تجعلها مقصداً للزائرين من خارج البلاد وداخلها". يضيف العلي أنّ "إنشاء منتجعات سياحية قريبة من البحيرة ومطلة عليها، ومطاعم وأسواق ومحطات استراحة، سوف يعيد الحياة إلى هذا المكان الحيوي المهم، وهو ما سوف يوفر مصدر رزق لأبناء محافظة السماوة".