اختارت الأمم المتحدة 19 يونيو/ حزيران اليوم الدولي للقضاء على العنف الجنسي في النزاعات المسلحة. "العربي الجديد" استعرضت الموضوع مع مسؤولة الأمم المتحدة المعنية بالعنف الجنسي في حالات النزاع، براميلا باتن، وجاء الحوار كالآتي:
* تأسس مكتب الأمم المتحدة المعني بالعنف الجنسي في مناطق النزاع، بقرار أصدره مجلس الأمن حمل رقم 1888 عام 2010، ما غيّر طريقة تعامل المجتمع الدولي مع العنف الجنسي باعتباره نتيجة ثانوية وحتمية للنزاعات، إلى جريمة يمكن منعها ويشملها عقاب يستند إلى قانون حقوق الإنسان الدولي والقانون الجنائي. فما المميز اليوم في ملاحقة قضايا العنف الجنسي في مناطق النزاع، والمحاسبة والتعافي المجتمعي بعد انتهاء الصراع؟
- أوجد القرار رقم 1888 تنسيقاً أفضل بين وكالات الأمم المتحدة وأساليب أكثر فعالية في التعاون مع الحكومات والممثلين العسكريين لكل أطراف النزاع المسلح ومنظمات المجتمع المدني، ما مهّد لإخضاع جرائم العنف الجنسي خلال النزاعات للقانون. وأحدث هذا القرار إلى جانب القرار رقم 1820 الصادر عام 2008 نقلة نوعية في فهم آفة العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات باعتباره تهديداً للسلم والأمن الدوليين. ومثل القرار 1888 المناسبة الأولى لتعامل مجلس الأمن مع قضية العنف الجنسي انطلاقاً من وجهة نظر النساء والفتيات اللواتي يقعن ضحية له، حيث كانت أجسادهن دائماً جزءاً من صراعات ساحات المعارك.
* هل أحدث إنشاء المكتب قبل 12 عاماً تغييراً جذرياً فعلياً؟
- تغيّرت عدة أمور، إذ أدرجت قضية العنف الجنسي في شكل منهجي في برامج بعثات حفظ السلام واتفاقات وقف إطلاق النار، وأثرت في معايير تحديد العقوبات، علماً أن جرائمها كانت مستبعدة من أحكام العفو العام قبل تبني القرار، إذ كان أول ما يطرح على طاولة مفاوضات السلام إصدار عفو عن جرائم العنف الجنسي.
ويدعو القرار إلى اتباع نهج وطني شامل للتصدي للعنف الجنسي خلال النزاعات، وتعزيز المساءلة الجنائية والأهلية القضائية، والاستجابة للضحايا. ويطالب أيضاً بتحسين وصول ضحايا العنف الجنسي إلى الرعاية الصحية للدعم النفسي والاجتماعي، والمساعدة القانونية، في فترة ما بعد النزاع، من خلال دعم تقديم خدمات لإعادة دمجهم الاجتماعي والاقتصادي.
كذلك، يدعو القرار إلى زيادة تمثيل المرأة في عمليات الوساطة وحل النزاعات وبناء السلام. ويطالب جميع أطراف النزاع باتخاذ الخطوات اللازمة لحماية المدنيين من كل أنواع العنف الجنسي، ويدعم فرض التدابير التأديبية العسكرية المناسبة لدعم مبدأ مسؤولية القيادة، ويؤكد الحاجة إلى تدريب القوات على حظر جميع أشكال العنف الجنسي ضد المدنيين، وضرورة فحص خلفيات المرشحين لمراكز قيادية في الجيوش الوطنية وقوات الأمن من أجل ضمان استبعاد من ارتكبوا انتهاكات خطرة للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، بينها العنف الجنس.
وأثمر عمل المكتب في تحقيق تقدم في ستة قرارات تبناها مجلس الأمن لاحقاً، آخرها القرار 2467 لصادر عام 2019 الخاص بـ "المرأة والسلام والأمن: العنف الجنسي في حالات النزاع"، والذي أخذ في الاعتبار عدداً من الأمور بينها أولويات الوقاية عن طريق رادعي العدالة والمساءلة، والحاجة إلى اتباع نهج يركز على الناجين، ومعالجة الأسباب الجذرية للعنف الجنسي الذي لا يمكن في أي حال أن يأتي من فراغ، وبينها قضايا التمييز بين الجنسين والتهميش والفقر والإقصاء، التي تشكل دوافع غير مرئية.
ويواصل المكتب العمل لتعزيز الإطار القانوني والموضوعي والمتين للتعامل مع جرائم العنف الجنسي في حالات النزاع، وتريد تغيير النظرة إلى أن الإفلات من العقاب هو القاعدة وتحقيق العدالة هو الاستثناء، وأن الإطار التشريعي في دول الصراع فقير للغاية، علماً أنها قد تعاني أيضاً من انهيار القانون وبناه التحتية والنظام. ودعا المكتب إلى وضع إطار تشريعي نموذجي خاص بالتحقيق والملاحقة القضائية لجرائم العنف الجنسي المرتبط بالنزاع، يعرض الأحكام القانونية والموضوعية والإجرائية المطلوبة لمقاضاة أي شكل من أشكال العنف الجنسي. أما التحدي الأكبر فيبقى في التطبيق".
* ما البنود التي جرى تطبيقها في قرارات مجلس الأمن الخاصة بالعنف الجنسي في حالات النزاع، وما التحديات التي تواجهها هذه القرارات، وفي أي مجالات تحديداً؟
دعا قرار مجلس الأمن رقم 1888 إلى تأسيس فريق يضم خبراء في مجال سيادة القانون والعنف الجنسي، وهو يعمل حالياً تحت قيادتي الإستراتيجية، ويشكل أحد أهم أذرعي التنفيذية. ويغطي عملنا حالياً بين 18 و23 دولة تواجه نزاعات. ومنذ أن توليت منصبي عام 2017، وسّع المكتب عمليات تغطية الصراعات إلى ميانمار وبنغلادش، وتابع أزمات اللاجئين من الروهينغا والإثيوبيين والأوكرانيين، إلى جانب أوضاع البلدان التي استقبلت اللاجئين. كما تشكل قضية الاتجار بالبشر أزمة أخرى داخل الأزمة الإنسانية، والتحدي الحقيقي الذي يواجه عمليات فريقي الصغير هو التمويل لإنجاز أمور أكثر.
بالطبع يستفيد فريقي من تقرير الأمين العام للأطراف التي يشتبه في ارتكابها أعمال عنف جنسية، والتي يضعها على قائمة العار، علماً أن بعضها مدرجة منذ سنوات بلا أي تبعات، لكن لا يمكن أيضاً تجاهل سلبيات وصمة العار التي تشكل أحد أسباب عدم التبليغ عن أعمال العنف بما يتناسب مع ما يحدث على أرض الواقع، ما يجعل الجناة يفلتون غالباً، ويكرّس واقع أن العنف الجنسي بات أكثر وحشية.
ويمكن القول إننا حققنا الكثير حتى في محاربة وصمة العار، لكن السؤال المطروح ماذا تعني القرارات الدولية لامرأة في تيغراي (إثيوبيا) اغتصبها 27 شخصاً ونساء أخريات واجهن مصيراً مشابهاً؟ قد تكسر بعض النساء حاجز الصمت، إذا خلقنا بيئة ملائمة، وقدمنا لهن الخدمات اللازمة والعدالة والتعويض المطلوبين؟ القرارات مهمة، لكن يجب أن تطبق، كما يجب التركيز على الردع.
يمكن منع العنف الجنسي الذي لا يحدث مصادفة من خلال التركيز في شكل أكبر على الوقاية ومعالجة جذور المشاكل قبل أن تحدث. نواجه تحديات في التمويل المطلوب أيضاً لتوفير ملاجئ. والحقيقة هي أنني حين أتحدث مع ناجيات وأسألهن ما يمكن أن نفعله لمنع حدوث ذلك؟ تقول بعضهن إنه لو كانت هناك نقطة للمياه في القرية، لما كنت سأضطر إلى المشي مسافات بعيدة للحصول على مياه والمرور بغابات والتعرض لعنف. وأشارت أخرى إلى أنه لو تواجدت مدارس لما اضطرت إلى ترك أولادها وحدهم في البيت حيث جرى الاعتداء عليهم حين خرجت للعمل في حقل. يجب أن ندعم تعزيز الاوضاع الاقتصادية التي يتواجد رابط بينها وبين الأمان الجسدي، وهذا ما تقوله الناجيات في أي مكان.
* تطرق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى اليمن في تقريره الأخير حول العنف الجنسي في حالات النزاع، مؤكداً صعوبة توثيق الوقائع والتحقق منها أكانت ضد نساء أو رجال، معتبراً أن الحالات التي يبلغ عنها تبقى قليلة جداً نسبياً. هل يمكن ربط أهمية إحصاء وتوثيق الانتهاكات بتعافي المجتمعات لاحقاً؟
- ترصد تقارير الأمين العام اتجاهات وأنماط العنف الجنسي المرتبط بالنزاع، لكنها لا تحتوي على أرقام دقيقة تنقل ما يحدث على الأرض فعلياً، لذا تبقى جزءاً بسيطاً مما يحدث في الواقع. فعلياً يدرج مكتبنا فقط حالات استطعنا التحقق منها، ونحن نعلم بالتالي أننا لا نستطيع أن نصل لكل الضحايا لأسباب عدة، منها أمنية يفرضها استمرار النزاعات.
على سبيل المثال، رصدنا أعلى نسبة حالات عنف جنسي في مناطق النزاع بجمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث حققنا في أكثر من ألف حالة، أما الرقم الحقيقي فقد يكون مضاعفاً عشر مرات أو عشرين مرة، خصوصاً أن الوضع الأمني الحرج شرق هذا البلد وبنيته التحتية المتهالكة على صعيد الطرق يمنعانا من التحرك بسهولة أو حتى دخول مناطق.
وبالنسبة إلى اليمن فلا يختلف وضعه عن أفغانستان وأوكرانيا ودول أخرى، والحالات التي تكشف لا تعكس الواقع، والناجون أنفسهم يواجهون الكثير من التحديات بينها الخجل، ووصمة العار، والخوف بأن ينبذهم المجتمع. يواجه الضحايا تراجيديا مضاعفة عبر الاغتصاب ونبذ مجتمعاتهم لهم بدلاً من الجناة. ويقدر عاملون إنسانيون أنه مقابل كل اغتصاب يتم التبليغ عنه، يجري التستر على عدد يتراوح بين 10 و20 حالة.
* تعددت الأحاديث سابقاً عن جرائم ارتكبها تنظيم "داعش" في سورية والعراق، بينها الاغتصاب والتحرش الجنسي والاتجار بالنساء. وخلصت لجنة التحقيق الأممية الخاصة بحقوق الإنسان في سورية إلى أن جرائم "داعش" هدفت إلى تنفيذ "إبادة جماعية متعمدة"، أما في العراق فبدا جلياً وجود ثغرات في قانون اعتمد العام الماضي لمحاكمة جرائم ضد نساء من الطوائف الأيزيدية والشبكية والمسيحية والتركمانية كجرائم ضد الإنسانية. ما أهمية سن القانون الخاص بالعراق، وما رأيك في الثغرات التي يتضمنها؟
- لا شك في أن القانون الذي أصدرته الحكومة العراقية في آذار/ مارس 2021 شكل نقطة فاصلة على صعيد الجهود التي تبذلها للتعامل مع جرائم "داعش" ضد أقليات دينية تشمل نساء الأيزيديات وغيرهن، وأوجد الاعتراف بتعرض هذه الأقليات لنهج إبادة، وأسس لإطار عمل يوجد دعماً مادياً للضحايا وطرقاً أخرى للتعويض عليهم، وبينها إعادة دمجهم في المجتمع ومنحهم فرصاً للحصول على تعليم وضمان اجتماعي. وهذه خطوة مهمة خصوصاً أنها إحدى السوابق القليلة التي تتخذ فيها حكومة إجراءات تهدف إلى معالجة حقوق واحتياجات ناجين من العنف الجنسي تحديداً. أعتقد بأن هذا القانون مهم أيضاً كونه أحد الأول التي تعالج جرائم ارتكبها "داعش" ضد أقليات دينية وعرقية أخرى، وتقدم مساعدة كبيرة على صعيد المعاشات التقاعدية، وقطع الأراضي السكنية وتدابير إعادة تأهيل الأراضي والتوظيف العام. وجعل تبني القانون إمكانات التغيير تلوح في الأفق بالنسبة لناجيات كثيرات. وتركز الاهتمام المؤسساتي على الناجيات من العنف الجنسي يضع العراق بين أوائل الدول في العالم العربي التي تعترف بالناجيات من العنف الجنسي، وتتخذ خطوات لمعالجة الظلم الذي لحق بهن، بما يتماشى مع المعايير الدولية.
أما عن الثغرات فمن المؤسف أن القانون يعجز عن تلبية احتياجات الأطفال المولودين نتيجة العنف الجنسي واغتصاب "داعش"، أو احتياجات الأمهات. وقد اختارت بعض النساء الأيزيديات الانفصال عن أطفالهن الذين ولدوا نتيجة اغتصابهن. كما أبعد بعضهن عن أولادهن قسراً، وبتن يرغبن في لم الشمل. ولا يزال العديد من النساء في عداد المفقودات، واللواتي أعتقد بأن كثيرات منهن قررن عدم العودة لأن المجتمع الأيزيدي والمجتمعات الأخرى لا تقبل أطفالهن. من هنا يجب أن تتصدى السلطات العراقية لمحن هؤلاء النساء والأطفال من خلال تخصيص تعويضات للأطفال المولودين نتيجة العنف الجنسي، واتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان عيش هؤلاء النساء والأطفال معاً بأمان، علماً أن أي قانون يكون جيداً بمقدار تطبيق بنوده لذا هناك حاجة لمواجهة التحديات والفرص المتعلقة بتنفيذ القانون، وبينها توفير البنى التحتية المؤسساتية اللازمة والتعاون، وضمان الفعالية والاستدامة والتمويل والامتثال لمعاييرنا والممارسات الصحيحة.
وبمقدار اعتقادي بأن سن القانون إنجاز رائع كونه شاملاً ويوفر مجموعة تدابير للتعويض يمكن أن تصبح معياراً مثالياً لخطط تعويض مستقبلية، لكن التحديات كثيرة ويتعلق بعضها بالميزانية. وأنا أحث الحكومة العراقية على تخصيص ميزانية محددة لتنفيذ القانون، والمانحين الدوليين على مساعدة العراق عموماً. ومن الضروري أن تستمع الحكومة كذلك لأصوات الناجين والمجتمع المدني من كل الفئات المتأثرة، وأن تكون هناك مرونة في تقديم طلبات تعويض تشمل أيضاً هؤلاء الموجودين في دول ثالثة، وإتاحتها عبر الإنترنت أو سبل أخرى.
* يلاحظ تزايد نسب "الزواج المبكر" في مناطق النزاع، وهو ما تدأبين على وصفه بأنه "إجباري في حالات كثيرة". هل يمكن وضع هذا الزواج في السياق الأوسع للعنف الجنسي؟
- أعتقد بأن هذه القضية لا تعطى اهتماماً كافياً على صعيد برامج تقديم المساعدات الإنسانية. ولاحظنا انتشار "الزواج المبكر" خلال جائحة كورونا، والآن نراه في شكل أوسع في أفغانستان مثلاً، وهو ظاهرة تترافق مع إجبار الفتيات على الزواج، علماً أن إحصاءات تلاحظ تزويج أكثر من 12 مليون فتاة قبل سن الثامنة عشرة سنوياً، ما يحرمهن من حقهن في التعليم والحصول على الأمان، كما تشير أدلة إلى أن الفتيات المراهقات أكثر عرضة للزواج المبكر في حالات الطوارئ الإنسانية، وأن تسعا من عشر دول ذات التي تشهد معدلات الزواج الأكثر ارتفاعاً ذات أوضاع هشة.
من المهم أن نفهم العلاقة بين زواج الأطفال والصراعات، وحتمية ارتفاع أعداده لأسباب عدة بينها الفقر والتعليم والعائلات التي تعيش في مخيمات لجوء أو نازحين داخليا تعتبر إمكاناتها وفرصها محدودة، وكذلك اليأس الاقتصادي وانهيار شبكة الدعم الاجتماعية. جميع هذه العوامل تزيد آليات التكيف السلبية، كالزواج المبكر. وما يحدث هو اضطهاد أكبر باسم الحماية. مثلاً، مع تفاقم الأزمة الإنسانية في أفغانستان، تزوج عائلات كثيرة بناتها تحت ضغط النقص في الإمكانات وتخفيف الأعباء الاقتصادية، وبأمل توفير بيت آمن لبناتها.
يعتبر القانون الدولي "الزواج المبكر" أحد أنواع التمييز الجندري. وفي كل الأحوال يجب أن نعالج عواقبه، بينها الحمل المبكر والعنف الجسدي والنفسي والخطر الذي تواجهه الفتيات. لا أعتقد بأنه يمكننا أن نتجاهل زواج الأطفال في مناطق النزاعات، ويجب أن نسلط الضوء أيضاً على الطرق التي يمكن من خلالها أن تولي الحكومات والمنظمات الإنسانية انتباها لخطر زواج الأطفال في مرحلة تخطيطها لعملياتها الإنسانية، ما يعني التركيز على حصول الفتيات على تعليم ذي جودة والعمل مع الفتيات في المراحل المبكرة للأزمة، وإنهاء ظاهرة الزواج المبكر الذي يترتب عليه القضاء على التحديات المختلفة، والتي تؤدي إلى ارتكاب هذه الانتهاكات كالفروق الجندرية ونقص التعليم والفقر.