"بيوت الأجداد"... تاريخ عائلات جزائرية للبيع

06 فبراير 2023
"بيع الدار يجلب العار" في عرف الجزائريين (فاروق بطيش/فرانس برس)
+ الخط -

"للبيع"، عبارة مكتوبة بالبنط العريض على لافتات موضوعة على جدران العديد من البيوت الجزائرية القديمة التي تعرف هذه الظاهرة منذ أعوام عدة، وتشمل تحديداً البيوت ذات التصاميم الهندسية التاريخية، أو تلك التي تقع وسط مدن وأحياء تتمتع بحيوية شعبية واقتصادية. وهذه البيوت المستهدفة تملكها عائلات، ويعود تاريخ بناء بعضها إلى أكثر من قرن، وتحوّل بعد اقتناء ملكيتها إلى محلّات كبرى أو مراكز تجارية أو فنادق.
على أرض الواقع، تضطر كثير من الأسر الجزائرية إلى بيع المنازل العتيقة الخاصة بسبب قضايا الميراث، ويباشر المالكون الجدد في تهديم الأماكن القديمة المشيّدة عادة بجدران من الحجارة السميكة، وإزالة أسقف القرميد، واستئصال الأشجار من جذورها في الأرض، وبناء فضاءات تجارية أو عمارات من عدة طوابق.
وتتلقّى العديد من العائلات الجزائرية عروضاً مغرية جداً لشراء بيوت قديمة تملكها في مدن مختلفة، بسبب تناسب موقعها الاستراتيجي مع المشاريع المعمارية الحديثة. ويروي العمّ عمار بلكحل، الذي يسكن وسط مدينة عين وسارة بولاية الجلفة، جنوبي الجزائر العاصمة، لـ"العربي الجديد"، أنه تلقى عروضاً مالية لشراء "بيت أجداده" بمبلغ تجاوز 50 مليون دينار جزائري (500 ألف دولار)، لكنه رفضها بعدما تشاحن مع إخوته الذين حاولوا إقناعه بقبول أحد العروض، وتمسك بـ"ألا يلتهم المال مقام العائلة الكبيرة".
يقول: "تربيت في هذا البيت، وسيبقى لجميع أحفاد عائلتنا. أنا الوحيد الذي رفض بيع البيت بين الوَرثة الشّرعيين. لم أقبل الاحتكام إلى العقل وقبول المال وتقسيمه على الورثة، مقابل التنازل عن مكان شهد خطواتي الأولى في الحياة. في العرف الاجتماعي الجزائري بيع الدّار يجلب العار، وأنا أرفض أن أتخلى عن تقليد يلازم حياتي منذ أكثر من 70 سنة، وتكرار ما فعله أفراد في عائلات أخرى رفضوا التخلي عن بيوت أجدادهم الكبيرة بسهولة، رغم دفع أموال كثيرة لهم".

مباني جديدة بلا روح الثقافة الجزائرية (فرانس برس)
مبان جديدة بلا روح الثقافة الجزائرية (فرانس برس)

في المقابل، يرفض كثيرون إبقاء بيت العائلة من دون أن يقطنه أحد، أو يستغلّه أحد الورثة الشّرعيين، ما يعرّضه للإهمال، علماً أن بيت العائلة الكبير يصبح المعضلة الأكبر التي يواجهها معظم أفراد العائلات من أبناء وأعمام وسواهم، خصوصاً بعد وفاة الأب، إذ تظل تركته معلّقة بين الورثة الذين يختارون حلّ بيعه وتقسيم العائدات المالية التي يحصلون عليها من الصفقة بينهم بالتساوي لتفادي المعارك القانونية.
وقد عرف أفراد في عائلات عدة انقسامات بسبب البيوت المتوارثة عن الأجداد. ويتذكر السيد عز الدين بوغابة، الذي يسكن في منطقة عين أزال بولاية سطيف، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنه كان يتشاجر يومياً مع إخوته بسبب رفضه التوقيع على وثيقة بيع منزل العائلة إلى رجل أعمال من ولاية أخرى دفع مبلغاً ضخماً جداً لإبرام عقد الشراء، ويشير إلى أنه طالب إخوته بأن يتنازلوا له عن البيت مقابل قبوله التخلي عن باقي حصص من أراضٍ ومحلات في مدينة أخرى، وهو ما حصل، إذ تنازل لجميع إخوته عن حقه في الميراث شرط الإبقاء على بيت العائلة باعتباره يبقي "رائحة الزمن السعيد الذي مضى".
بالنسبة إلى جزائريين كثيرين، كلّما يُهدَم بيت قديم في حي بمدينة يتناقص جزء من تاريخها، كأنه انتزاع لعضو في الجسم الواحد. وفي عدد من أحياء مدينة ميلة، شرقي الجزائر، باعت عائلات عريقة مثل كلّوز وبن عبد الرحمان وعمرو عياش وغيشي وصايفي وبلكربي وشتوان وبن ناصر وبن ناصف وبوعروج أكثر من 50 بيتاً قديماً بعضها متوارثة منذ أربعة أجيال، ما شكل عملية أثارت الكثير من التّساؤلات. 
تذكر حسينة صايغي (54 سنة)، التي تقطن وسط مدينة ميلة، في حديثها لـ"العربي الجديد"، أن بيوتاً عدة تحوّلت مع مرور الزمن إلى محلات تجارية أو مبان ذات طابع عصري ومستودعات ومرائب للسيارات، بعدما كانت تجمع أفراد العائلات، وتتميز هندستها بطابع أثري يتضمن أسقف قرميد وباحات واسعة داخلها.  
وتقول: "غيّرت هذه التحوّلات الملامح العريقة لمدينة ميلة، وطوت صفحة من أجزاء تاريخها، وألغت بعض الخصوصيات التي كانت تميّزها عن بقية المدن المجاورة، كما مسحت ذكريات عائلات كانت تقطنها حتى وقت قريب، وجعلتها تواجه مصير التفكك بسبب الميراث، وتوزّع أفرادها على الأحياء السكنية الجديدة".

سقف الأجداد معروض للبيع (العربي الجديد)
سقف الأجداد معروض للبيع (العربي الجديد)

وتعجّ محاكم الجزائر بدعاوى قضايا الميراث التي قسَّمت العائلات، وغالبيتها بسبب العروض المغرية المقدمة لشراء المنزل الكبير تحديداً بعد موت الجدّ ثمّ الأب. 
وتكشف المحامية أسمهان بورنان، من منطقة شلغوم العيد بولاية ميلة، لـ"العربي الجديد"، أنّ غالبية المتخاصِمين أو الأقارب الذين باعوا المنازل القديمة أرادوا الإفادة من تقسيم التّركة النقدية التي خلفها الجدّ أو الأب، وليس الأرض أو الأغراض والمقتنيات الأخرى مثل الأثاث، وتقول: "بيع مخلفات الأجداد في نظر البعض هو التصرف الأفضل لتجنب خلافات قد تطول سنوات، فعملية البيع يعقبها تقسيم المال مباشرة خلال وقت قصير، ما يسمح بأن يستفيد الجميع من الحصص تمهيداً لصرفها، خصوصاً أنّ بعض الورثة يواجهون حالات مستعصية، ويتطلعون إلى الحصول على أموال الميراث من أجل فكّ معضلات حياتية قد تكون صعبة، أو التخلص من ديون، أو شراء بيت أو سيارة".
في المقابل، أصبحت بيوت قديمة أطلالاً بسبب صراع الورثة وخلافاتهم على عمليات البيع. وبعض أفراد العائلات يرفضون بيع حصصهم من الميراث، أو يختلفون في شأن قيمة البيت العائلي، ما جعل بعض البيوت بلا روح ويسكنها العنكبوت بعد إغلاقها لسنوات طويلة.
وقد تنسف ظاهرة بيع البيوت القديمة علاقات القرابة، علماً أن تطوّر احتياجات الحياة اليومية للأفراد فرض تغيّر المجتمع من تكافلي وتضامني إلى استهلاكي. 
ويفسر الأستاذ في علم الاجتماع بجامعة بسكرة، جنوبي الجزائر، عبد العالي دفة، التغيّرات في التفاعل مع الأمور الاجتماعية بالقول لـ"العربي الجديد"، إن "الأسر باتت مستقلة اقتصادياً عن العائلة الكبرى، ويعيش أعضاؤها وسط التحوّلات الواضحة في المجموعات الإنسانية من الذهنية الجماعة إلى الفردية التي باتت تميّز المجتمع الأسري الحديث". 

يتابع: "خروج الأبناء من بيت العائلة واستقلالهم بعد الزواج يترك حالات اغتراب مع البيوت التي ولدوا وترعرعوا فيها، ويعود معظمهم إلى هذا البيت في المناسبات والأعياد والأفراح والأتراح فقط، وقد يستفيد منه شخص واحد على حساب المجموعة، أو يجرب بيعه".
ويتحدّث دفّة عن مجموعة تغيّرات أصابت الأسر الجزائرية وقادتها إلى "التفِريط" بالبيوت أو أماكن "الدار الكبرى" كما تسمى في العديد من المناطق الجزائرية، ويقول: "تحوّلت الأسر من نماذج اجتماعية واقتصادية واستهلاكية تستند بالدرجة الأولى إلى علاقات القرابة، وتعتمد على الإنتاج الزراعي والحيواني، إلى نماذج للحياة الاجتماعية الفردية التي تعتمد على الاقتصاد التجاري والصناعي والخدماتي، وصار بالتالي الحنين إلى مكان المولد أو مسقط الرأس ينحصر في المناطق الريفية الصغيرة والجبال وبلدات ما زالت تحافظ على أصالة العائلات الكبيرة". 
ورغم هذه التغيّرات التي مسّت بعض القيم داخل الأسر الجزائرية، ما زالت بعضها تحافظ على طابعها الثقافي بكل ما تحمله من أعراف وتقاليد، وتتمسك ببعض المظاهر الجوهرية للعائلات التقليدية، ما يجعل بيع البيوت لا يعني اختفاء ملامح لملمة أطراف العائلة الواحدة تحت سقف الأجداد.
ويعرف سكان المناطق الريفية خصوصاً بقوة التماسك الاجتماعي والعادات التي تهدف إلى تحقيق أهداف المجتمع أو العائلات، أو تحقيق منافع عمومية، وكلها أمور ينبغي الحفاظ عليها بسبب الدور المهم الذي تلعبه في الحفاظ على عادات إيجابية تؤدي إلى مجتمع مستقر خالٍ من الصراعات. 

المساهمون