بدأت الحياة تعود بشكل تدريجي إلى طبيعتها في مختلف مناطق إقليم تارودانت الواقع في جهة سوس ماسة جنوبي المغرب، وذلك بعد أكثر من ثلاثة أسابيع خيمت خلالها رائحة الموت على مدن وقرى الإقليم من جراء تبعات زلزال الثامن من سبتمبر/ أيلول الماضي، الذي هز عدداً من المناطق في البلاد.
وعلى الرغم من مشاعر الألم والحزن والحسرة على ما ضاع والانشغال بدعم منكوبي الزلزال وإيوائهم وإحصاء مئات المباني المتضررة، فإن الإقليم الذي يأتي ثانياً بعد إقليم الحوز لناحية عدد الضحايا وحجم الدمار، بدأ يلملم جراحه ويتطلع إلى المستقبل على الرغم من المخاوف الموجودة.
ويقول أحد سكان إقليم تارودانت، محمد أمزال، لـ"العربي الجديد": "سكان الإقليم عادوا إلى ممارسة أنشطتهم الاعتيادية في ظل الجهود المبذولة لمساعدتهم على تجاوز ما عاشوه من فاجعة. حالياً، جرى تجاوز مرحلة الصدمة وبدأت الحركة تعود بشكل تدريجي، وإن كانت لدى بعض المتضررين مخاوف من مدة بقائهم في الخيام، التي لم يعتادوا العيش فيها، إلى حين الانتهاء من عملية إعادة الإعمار". يضيف: "هناك جهود لاسترجاع المنطقة عافيتها من خلال إعادة فتح الطرقات الرئيسية والفرعية، وعودة التلاميذ لاستئناف دراستهم. كما استأنفت الأسواق الأسبوعية نشاطها في مجموعة من المناطق القروية، الأمر الذي سيكون له أثر إيجابي على المنكوبين والإقليم ككل خلال الأيام المقبلة".
وعلى الرغم من بُعد إقليم تارودانت عن مركز الزلزال الذي ضرب منطقة الحوز (جنوب غربي المغرب) بنحو 300 كيلومتر، إلا أن الكارثة محت قرى بكاملها في هذا الإقليم مترامي الأطراف، الذي تبلغ مساحته نحو 16 ألفاً و500 كيلومتر مربع ، مع الإشارة إلى أن نحو 70 في المائة منها مناطق جبلية وعرة غالبية مسالكها ترابية وغير مصنفة ضمن الطرقات التابعة لوزارة التجهيز والمياه في المغرب.
ولم تقتصر آثار الزلزال المدمر على المناطق القروية، بل انسحبت على عاصمة الإقليم، مدينة تارودانت، وهي أقدم وأعرق مدن المغرب. كانت مدينة عامرة منذ أقدم العصور (الفينيقيون) ولعبت أدواراً تاريخية هامة في تاريخ منطقة سوس والمغرب، سواء خلال مرحلة ما قبل الإسلام، أو خلال مختلف مراحل تاريخ المغرب الإسلامي، لا سيما في عهد الدولة السعدية (1510–1659). وعاشت عصرها الذهبي وتطورها الكبير بعدما جعلها السعديون عاصمتهم الأولى لمدة تفوق عشر سنوات، قبل اتخادهم مراكش عاصمةً لهم بعد ذلك. وفي تلك الفترة، اشتهرت تارودانت بصناعة السكر الذي وصل مداه حتى أوروبا التي كان يصدر إليها، وخصوصاً في عهد السلطان أحمد المنصور الذهبي.
وتعددت الروايات حول أصل تسمية تارودانت، إلا أن الرواية الأكثر شهرة وتداولاً تفيد بأن المدينة تعرضت لفيضان في وقت سابق تسبب في خرابها وهلاك غالبية سكانها. وفي تلك الأثناء، أخذت امرأة تصيح باللغة الأمازيغية "تاروا، دانت" ومعناها "الأبناء، ذهبوا".
اليوم، وبعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على زلزال الحوز، تحاول مدينة تارودانت، عاصمة الإقليم، الحفاظ على سحرها وتاريخها، على الرغم من الجراح التي رسمها دمار الزلزال على قلوب سكانها وعلى سورها، الذي يعتبر أقدم سور تاريخي في المغرب وثالث أعظم سور أثري في العالم بعد سور الصين العظيم وسور كومبالغار بالهند، ويبلغ طوله 7,5 كيلومترات، وهو مبني بالتراب المدكوك المخلوط بالجير، الأمر الذي يعطيه صلابته.
ويقول الصحافي المتحدر من مدينة تارودانت مولاي المهدي غرايبة، لـ"العربي الجديد: "تارودانت حاضرة سوس ومركز إقليم تارودانت بدأت تتنفس من جديد. الحركة تعود إليها شيئاً فشيئاً بعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على الزلزال، الذي خلف هلعاً وخوفاً في صفوف المواطنين ومئات الشهداء والجرحى. كما عرفت الأنشطة السياحية انتعاشاً ملحوظاً من خلال ظهور أعداد مهمة من الوافدين، سواء الذين جاؤوا لمد يد المساعدة للمتضررين في الإقليم أو قدموا من خارج البلاد".
وتعرف تارودانت كوجهة للسياحة تستقطب عشرات الآلاف من السياح سنوياً من مختلف دول العالم. وتعد بنيتها التحتية جيدة وتتميز بمواقعها الطبيعية والتاريخية على امتداد الإقليم. وخلال الأيام الماضية، شهدت المدينة توافد العديد من الحافلات السياحية وعلى متنها أفواج من السياح من جنسيات مختلفة اختاروا الإبقاء على برنامجهم لزيارة المنطقة.
يقول غرايبة إن الوافدين إلى المدينة يحرصون على زيارة معظم المعالم والآثار على الرغم من تضررها، لقيمتها الثقافية والتاريخية على مر العصور. وتعمل السلطات المحلية بتارودانت على وضع ملصقات تحذيرية على جدران المباني الآيلة للسقوط، وحواجز لتأمين مرور السياح وعموم المواطنين إلى جانب السور التاريخي وأبوابه.
ويوضح أن معالم عدة بالمدينة تضررت من جراء الزلزال، منها باب السلسلة، الذي يعد المدخل الرئيسي شمال شرق المدينة، وباب ولاد بنونة الذي يضم رواق ولاد بنونة، وقد رمم مؤخراً من قبل صندوق السفراء الأميركيين بكلفة بلغت 150 ألف دولار. وهناك مسجد القصبة الذي شيده السلطان محمد الشيخ السعدي، والجامع الكبير، وقصر دار البارود الذي شيد في نهاية القرن التاسع عشر، والرياض الموجود في درب الأندلس والذي يعد معلماً تاريخياً.
وباشرت وزارة الشباب والثقافة والتواصل تقييم حجم الأضرار التي لحقت بالمباني الأثرية في مدينة تارودانت من جراء الزلزال بهدف ترميمها، وسط مطالب بضرورة الإسراع في عمليات الترميم حتى تعود تلك المباني إلى حالتها الطبيعية. وتواصل السلطات في الإقليم إحصاء وحصر المباني المتضررة من الزلزال. وأحصي 5403 منازل حتى 22 سبتمبر/ أيلول الماضي، وفق إحصائيات رسمية. وينتظر أن تُضاعف جهود عمل لجان الإحصاء خلال الأيام المقبلة، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية تغير الظروف المناخية في المنطقة.