قلب العدوان الإسرائيلي الوضع التعليمي في لبنان رأساً على عقب، مع ما يرافقه من نزوح طاول الجنوب والضاحية الجنوبية والبقاع والجبل.
تبدأ المدارس الرسمية في لبنان العام الدراسي الجديد اليوم الاثنين، لكن هذا العام الدراسي لا يشبه أي عام سبقه، رغم ما مرَّ على لبنان من حروب وكوارث وأوبئة انعكست على العملية التعليمية، فالتلاميذ لا يعرفون أين سيدرسون، والمعلمون لا يعلمون بأيّ مدارس سيلتحقون، ووفق أيّ برنامج دراسي، والمعلمون المتعاقدون لا فكرة لديهم عن بدلات الساعات.
وشهدت الفترة الأخيرة إعلان أكثر من موعد لفتح المدارس، لكن لم يتم الالتزام بأي منها نتيجة الحرب التي نتج عنها تدمير عشرات القرى وأحياء المدن، ومصرع وإصابة آلاف الأشخاص. ومن المعروف أن المدارس الخاصة عادة ما تبدأ الدراسة قبل نظيرتها الرسمية، ونادراً ما جرى الانطلاق معاً، ويكمن السبب في المشكلات المتراكمة في القطاع العام، والتي لا تجد حلولاً ناجعة لأسباب متداخلة.
وترافق تصاعد وتيرة القصف مع بداية العام الدراسي في شهري سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول، وتزامن مع نزوح أعداد كبيرة من المواطنين من بيوتهم وقراهم ومدنهم حاملين الحد الأدنى من ضرورات الحياة.
باتت الأزمة التعليمية في صميم الكارثة التي أصابت لبنان بأسره، وطاولت أبناء النازحين الذين نجوا من الموت، واستقروا في مدارس المناطق غير المستهدفة، والتي أصبحت مراكز إيواء تعج بالنازحين من دون حد أدنى من التجهيزات مثل الفرش والبطانيات وتجهيزات الطبخ والمياه.
ولم يقتصر الأمر على المدارس اللبنانية، الرسمية والخاصة، بل شملت المدارس التابعة لوكالة "أونروا" بعد أن ضمتها إسرائيل إلى قائمة الاستهداف والإخلاء، خصوصاً في مخيمات صور الثلاثة، البص والرشيدية والبرج الشمالي، وبعض التجمعات الفلسطينية القريبة من المدينة، إلى جانب مدارس مخيمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا، والتي تصلها شظايا القصف الذي يستهدفها أو يستهدف ضاحية بيروت الجنوبية.
ووقعت وزارة التربية في أزمة كبيرة بعد أن أُلقي عليها عبء تدبير المقاعد لمئات ألوف التلاميذ الذين غادروا مناطق دراستهم، والملاجئ لمئات ألوف النازحين، وكان عليها أن تجري "مقاصة" بين هذه وتلك، خصوصاً أن اختيار المدارس للإيواء أملته ظروف لا علاقة لها بالتعليم، وإنما كونها في مناطق يعتقد أنها آمنة.
تحولت عشرات المدارس إلى مراكز إيواء تعج بآلاف النازحين
كان على الوزارة أن تعيد احتساب ما تبقى لديها من مدارس، وتتصرف على هذا الأساس. ولكن هذا جزء من المشكلة، وتكررت الاجتماعات في وزارة التربية والتعليم العالي، وحضرها الوزير وكبار الموظفين وممثلون عن مؤسسات التعليم في القطاع الخاص لتدبير الحلول، ولو كانت ترقيعية، فالمدارس الخاصة عليها أن تؤمن الرواتب والأجور لمعلميها كي ينتظم دوامها، ولذا يجب عليها أن تتقاضى الأقساط من الأهالي، بينما الآلاف منهم فقدوا موارد عيشهم وممتلكاتهم، وباتوا ينتظرون وجبة طعام من المنظمات المحلية والأممية، ومن ثم لا يستطيعون دفع ما درجوا على دفعه سنوياً. فابتكر المعنيون معادلة قوامها ألا تتقاضى الإدارات المدرسية الخاصة أكثر من 30% من قيمة القسط السنوي عن العام الماضي.
وتعاطى المجتمعون مع وقائع صادمة بعد ثبوت أن استعمال المدارس كمراكز إيواء يشمل أيضاً مدارس خاصة، وإن كان عددها أقل، وقررت الوزارة عدم إفراغ أي مدرسة من النازحين، بينما معظم المدارس الخاصة التي لم يطاولها قرار الإيواء ذات خبرة في التعليم من بعد، ما يعني أن طلابها لن يخسروا فرصتهم على نحو كامل، لكن تبقى مشكلات العائلات التي غادرت لبنان، أو تعيش في مكان لا تستطيع فيه العيش على نحو عادي، مثل المناطق المستهدفة بالقصف.
ويتمثل الوجه الآخر للمشكلة في العلاقة التي تربط الوزارة بالهيئات النقابية للمعلمين، فإلى جانب التنقلات الاضطرارية التي طاولت ألوف المعلمين، هناك مسألة الرواتب والتقديمات، والعام الماضي ذهب القسم الأكبر منه في إضرابات وامتناع عن التوجه إلى المدارس نتيجة الانهيار المالي.
ولما كانت موازنة الوزارة عاجزة عن تعويض هؤلاء، فقد أعلنوا أنهم لن يعاودوا التعليم قبل تأمين مقومات عيش كافية عبر مبلغ مالي يتقاضونه بالدولار الأميركي، ودارت مفاوضات انتهت بتقديمات حصلت عليها الوزارة من بعض الدول والهيئات الأممية. فكان الحل الذي جرى اعتماده لتقليص نتائج الفارق بين مدة بدء التعليم في القطاعين يعتمد على تخفيض البرامج المقررة وإلغاء امتحانات الشهادة المتوسطة وتسهيل امتحانات الثانوية العامة، ما أدى إلى تراجع علمي ملحوظ.
وتبدو هذه المعضلة على وشك التجدد، مضافاً إليها المسألة الأمنية التي تضغط على الجميع، على المعلمين الذين إما غادروا بيوتهم وقراهم ثم مدارسهم، وإمّا المدارس التي باتت مراكز إيواء، وعليها مراجعة الوزارة للحصول على أماكن تدريس شاغرة، كما طاولت أيضاً التلاميذ الذين يخشى ذووهم إرسالهم إلى المدارس خشية التعرض للخطر.
وجرى خلال الاجتماعات التي عقدت بين الروابط النقابية ووزير التربية تأكيد بدء الدراسة في موعدها، علماً أن البعض اقترح التأجيل إلى مطلع العام المقبل ريثما تكون الأمور قد انجلت بخصوص الوضعين السياسي والأمني، واستند هؤلاء إلى أن المنهج الدراسي لم يعد كبيراً بالقياس إلى ما كان عليه، ويمكن إنجازه خلال مدة لا تزيد عن 150 يوماً، كما عارض البعض التعليم الحضوري نظراً إلى مخاطره في ظل وجود حلول بديلة.
تمّ تأكيد أن العام الدراسي سينطلق من خمسين مدرسة رسمية مزودة بالتجهيزات لتستفيد منها المدارس والتلاميذ في منازلهم بصورة متزامنة، أو في المدارس المقفلة بسبب العدوان التي تتمتع بالإمكانات البشرية لمتابعة تأمين التعليم من بُعد. وأكد الوزير عباس الحلبي أن "لدى الوزارة نحو 310 مدارس رسمية في مختلف المناطق، وهي غير مشغولة بالإيواء، وتتركز الجهود على توزيع التلاميذ عليها بمعدل ثلاثة أيام في الأسبوع لكل مجموعة"، كاشفاً عن الحاجة إلى نحو 169 مدرسة خاصة في كل المناطق، وأنه يمكن اعتماد التعليم من بُعد بحسب أوضاع التلاميذ.
وتقرر اعتماد 350 مدرسة رسمية آمنة وضعت ضمن مجموعتين ودوامين، تتولى الأولى التدريس أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء، والثانية في أيام الخميس والجمعة والسبت، على أن يكون عدد الحصص اليومي 7 حصص. وتتعاون الوزارة ومدارسها الرسمية مع 169 مدرسة خاصة حتى الآن، ضمن مجموعة واحدة، ولـ 5 حصص يومية في دوام بعد الظهر.
ولا تزال الجوانب المادية لرواتب وأجور وبدل ساعات التدريس للمتعاقدين التي يتحتّم على الوزارة دفعها قضية قائمة، كما أن نفقات المدرسة اليومية من محروقات وفواتير الكهرباء والمياه والهاتف والإنترنت والنظافة تظل مشكلة، وتتولاها لجان الأهل التي لا يمكن القول إن لديها موازنات كافية.
ويراهن وزير التربية على المساعدات التي يمكن أن تصل إلى الوزارة من بعض الدول الصديقة والهيئات التابعة للأمم المتحدة، وأعلن خلال اجتماع إداري شارك فيه كبار موظفي الوزارة ووحداتها الإدارية ورؤساء المناطق التربوية بعض تفاصيل مشاركته مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في المؤتمر الدولي الذي عقد في باريس، بناء على دعوة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي أرسل إشارة خاصة إلى موضوع التعليم، وتسلم من الوزير الحلبي خطة وزارة التربية، وكلف أحد مستشاريه بالمتابعة، مؤكداً العمل على عدم خسارة العام الدراسي، وأن تكون لدى تلاميذ الشهادات الرسمية فرصة للامتحانات، وأن أي تمويل للبنان سيكون فيه حصة وافرة للتعليم.
يدخل كل هذا في الجانب التعليمي الإجرائي، بينما الموضوع أبعد خطورة، إذ يتعلق بالوضع النفسي الذي يعانيه التلاميذ بفعل تأثيرات القصف الإسرائيلي المتواصل منذ نحو شهرين من دون انقطاع؛ ما أرغم آلاف العائلات على مغادرة منازلها، وسط دمار ومشاهد رعب، فكيف للتلميذ الذي تعرض للتهجير أن يركز على دروسه في حين أن الطائرات تحوم فوق رأسه ليل نهار؟. ولعل الحلقة الأخيرة في حلقات النزوح تلك التي شهدتها مدينة بعلبك ومحيطها في البقاع الشمالي، والتي طاولت نحو 100 ألف شخص.