تقرير انفجار مرفأ بيروت: انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وفشل في الاستجابة

29 يوليو 2021
متطوعون يُزيلون حطام البيت الذي تضرر من جراء الانفجار (حسين بيضون)
+ الخط -

قبل أيام معدودة من الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/ آب 2020، كشف أول تقرير لبناني رسمي هول "الإهمال والفشل الكبير في آليات الاستجابة وحماية حقوق الجميع من دون تمييز، ما أسفر عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الحقّ في الحياة والحماية والأمن والصحة والمساعدة الطبيّة والسكن اللائق والغذاء والماء والتعليم، والحقّ بالتمتع ببيئة صحية سليمة". ويوصي التقرير بـ"ضرورة الطلب من البلدان التي قد تكون لديها معلومات ذات صلة، تزويدها للحكومة اللبنانية من دون مزيد من التأخير، وطلب بعثةٍ لتقصّي الحقائق تساند لبنان في قضية انفجار المرفأ، وضمان استقلالية القضاء من أجل الوصول إلى الحقيقة والعدالة".
التقرير الذي أطلقته الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب، أظهر أنّ "الانفجار أضاف طبقة أخرى إلى التحديّات التي تواجهها الفئات الأكثر ضعفاً من النساء والأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة، وكبار السن، والمثليّات والمثليّين ومزدوجي الميل الجنسي ومتحوّلي الهوية الجنسية، والعاملات والعاملين في الخدمة المنزلية، والعمّال والعاملات المهاجرين واللاجئين. وقد تفاقم تأثير الكارثة بسبب الأزمات التي تواجهها البلاد، بما في ذلك أزمة اللاجئين والوضع الاقتصادي وجائحة كوفيد-19، والشلل السياسي والحوادث الأمنيّة".

جهود إغاثية قاصرة
تحت عنوان "رصد انتهاكات حقوق الإنسان في الاستجابة إلى انفجار مرفأ بيروت"، يظهر التقرير عبر محاوره المتشعّبة، أنّ "الحكومة اللبنانيّة لم تفعّل الخطة الوطنيّة للاستجابة للكوارث عقب الانفجار، وأنّه على الرغم من استجابة الجهات الدوليّة والمحليّة عبر تقديم المساعدات الإنسانيّة بصورة فوريّة، فإنّ الانفجار أثقل كاهل نظام الرعاية الصحيّة الذي عانى افتقاراً للموارد اللازمة لدعم المصابين، وعَجِز عن توفير المستلزمات الأساسيّة لعائلاتهم التي فقدت منازلها وسبل عيشها، لا سيّما أنّ الانفجار تسبّب بخسارة الوظائف نتيجة دمار أماكن العمل. كما أنّ المنظمات غير الحكوميّة المحلية والدولية سارعت إلى بذل الجهود الإغاثيّة، غير أنّ غياب التنسيق بين هذه المنظمات ومقدّمي الخدمات، إلى جانب تحديات التمويل والبيروقراطيّة ومدى إمكانيّة النفاذ للمعلومات وشفافيّتها، أعاق بدوره فعاليّة مساعدة الضحايا ودعمهم". وقابلت الهيئة، خلال إعداد التقرير، أفراداً ومنظمات معنيّة بالاستجابة، بالإضافة إلى قائمة من المساهمين تضمّ 65 لبنانياً وأجنبياً من خلفيّات مختلفة، بما في ذلك المؤسّسات الحكوميّة والمؤسّسات الأمنيّة اللبنانيّة ونشطاء المجتمع المدني ومحامين. كما عقدت 43 اجتماعاً مع ضحايا الانفجار ممّن فقدوا أفراداً من الأسرة أو تعرّضوا لأضرار جسديّة أو لحقتهم أضرار ماديّة. وتعرّض معظم الذين التقت الهيئة بهم إلى أضرار معنويّة وجسديّة وماديّة. كما قابلت 43 ناجياً وناجية لتقييم مدى وعيهم بحقوق الإنسان وبأيّ حقوق انتُهكت نتيجة الانفجار.

انفجار مرفأ بيروت (حسين بيضون)
(حسين بيضون)

استجابة فوضويّة عمّقت الكارثة
يظهر التقرير أنّ "إعلان حالة الطوارئ بعد الانفجار ساهم في المشاركة المتزايدة للقوات المسلحة اللبنانية واستخدامها للأسلحة الثقيلة، ما أدّى إلى ارتفاع مستويات العنف وانتهاكات حقوق الإنسان خلال الاحتجاجات، وتقييد وانتهاك الحق في حرية التعبير المنصوص عليها في القانون الدولي. وأدّى غياب التخطيط الاستراتيجي إلى جعل الاستجابة فوضويّة غير فعّالة، وغير منسّقة وسيئة الاستهداف بصورة عامّة. ورأى البعض أنّه جرى انتهاك الحق في الخصوصيّة لدى تقييم حاجاته. وقد سُلّمت المساعدات الطارئة مرّات عدة للأشخاص أنفسهم أو إلى أشخاص ليسوا في حاجة حقيقيّة، وحُرم العديد من المتضرّرين من الحصول على مأوى وخدمات حماية. من هنا، الحاجة الماسّة إلى إنشاء هيئة تنسّق عمل الحكومة، وإلى رقمنة الحكومة لتسهيل الوصول للمعلومات وتبادل البيانات، واتّباع إجراءات لا تستدعي الرشاوى". 

كما يوضح التقرير أنّ "احتياجات الناس لم تُلب دائماً كما ينبغي، فلم يكن مسموحاً للمنظمات غير الحكومية توجيه التمويل نحو المجالات التي تعتقد أنّها بأمسّ الحاجة للدعم. كما أنّ بعض الجهات المانحة تردّدت في السماح لهذه المنظمات بتقديم مساعدة مالية مباشرة للمستفيدين الذين أُجبروا على تلقّي حصتهم عبر المصارف، وهو ما لم يكن بالأمر السهل نظراً للأزمة الاقتصادية وإجراءات المصارف. ورفض بعض الجهات المانحة تقديم المساعدة للّاجئين والأجانب، فاقتصرت مساعداتهم على اللبنانيّين".
وتستعرض الهيئة كيف "شكّلت المصارف تحدياً كبيراً بعد أن حدّدت مبلغاً يحقّ للمودع أن يسحبه أسبوعياً أو شهرياً. فقد عجز الصليب الأحمر اللبناني عن تقديم استجابة فورية، نظراً لوجود قيود على عمليات السحب النقدي، وبالتالي واجه تحديات في الدفع لمورّديه الذين لم يقبلوا الدفع بالليرة اللبنانية. كما برزت تحديات الضرائب والتعريفات لناحية تخليص المساعدات المقدمة من الجهات المانحة، إذ اضطرّت المنظمات غير الحكومية لدفع غرامات عالية جداً للإفراج عن المساعدات من المرفأ. وفي بعض الأحيان كانت هذه المساعدات تفسد قبل تخليصها، كالمساعدات الغذائية والطبية العاجلة. وتجلّت كذلك صعوبة وصول المنظمات غير الحكومية إلى عددٍ من المناطق المتضررة من دون تصريح خاص، ما علّق حرية التنقل وشكّل عائقًا أمام أعمال الإغاثة".

انفجار مرفأ بيروت (حسين بيضون)
(حسين بيضون)

حقوق مُنتهكة
وفي تناوله للانتهاكات، يشدّد التقرير على أنّ "الحكومة اللبنانية أخلّت بواجبها في الرعاية وحق الحياة لمواطنيها، عندما تركت مادة خطيرة في مرفأ بيروت لأكثر من 6 سنوات. وبعد قرابة العام، لم تتوفّر معلومات حقيقية حول ما حدث، وهذا انتهاك آخر لحقوق الضحايا. كما أنّ الحكومة لم تتّخذ أيّ إجراء أو تدابير لإزالة مادّة نترات الأمونيوم من المرفأ، وبالتالي لم تحمِ الحق في السكن اللائق. وتشير التقديرات إلى أنّ أكثر من 300 ألف امرأة ورجل وطفل قد شاهدوا منازلهم مدمّرة من جرّاء الانفجار، ناهيك عن دمار المنازل التراثية الثقافية في ظلّ غياب سياسة ثقافية واضحة وشاملة للبلد".
وإذ يحذّر التقرير من "العواقب الصحية والبيئية الكارثية للانفجار"، فإنه يشدّد على "حقّ الجميع بمعرفة مخاطر التعرّض السام لأكسيد النيتروز وغيره من الملوثات. فقد خلّف الانفجار 800 ألف طن من مخلفات البناء والهدم التي تحتوي على الأرجح على مواد كيميائية خطيرة، لا سيّما الاسبستوس (الأميانت)، الذي يسبّب التهاباً طويل المدى وتليّفاً رئوياً. وبالتالي، يلزم إيلاء اهتمام خاص بكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة وغيرهم ممّن يتأثرون أثناء حالات الطوارئ".
وفي ما يتعلق بوعي الضحايا بحقوقهم وكيفيّة الوصول إلى العدالة، يبرز التقرير أنّ "الردود كثيراً ما كانت: جميع حقوقنا منتهكة أو ليس لنا أيّ حقوق في لبنان"، إلّا أنّ عدداً قليلاً تمكّن من تحديد الحقوق التي انتُهكت بالفعل. وذكر كثيرون أنّ حقهم في الصحة النفسية قد انتُهك ولم تُقدّم خدمات كافية بعد الانفجار".

انفجار مرفأ بيروت (حسين بيضون)
(حسين بيضون)

الأولوية لتحديد طبيعة الجريمة
في هذا السياق، يقول مفوّض العلاقات الدولية في الهيئة بسّام القنطار، لـ"العربي الجديد"، إنّ "مسار الاستجابة بعد الانفجار كشف مدى هشاشة البنى التحتية، إضافة إلى غياب التنسيق والفوضى العارمة ومساوئ إعلان حالة الطوارئ. أمّا النقطة المحورية، فتكمن بضرورة تحديد طبيعة الجريمة. هل هي انفجار أم تفجير؟ أمر من شأنه تحديد المسار القضائي وحسم النقاش المتعلّق برفع الحصانات. ففي حال تورّط مجموعات إجرامية منظمة في ارتكاب جريمة عابرة للحدود الوطنية ومشمولة بالاتفاقيات الدولية، لا سيّما اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (اتفاقية باليرمو)، فإنّ لبنان طرف فيها، وهو ملزم برفع الحصانات عن جميع الأشخاص، بمن فيهم رؤساء ووزراء ونواب. وفي حال كان انفجاراً ناجماً عن إهمال، فإنّ مسار رفع الحصانات يجب ألا يدخل في البازار السياسي، بل يجب أن يتبع مساره الدستوري والقانوني".  
ويشرح القنطار أنّ "كلّ قسمٍ من التقرير يشمل مجموعة توصيات ستعمل الهيئة على تفعيلها وتنفيذها من خلال مشاريع قوانين أو متابعة ورقابة أو من خلال المناصرة وحشد التأييد. كما سنرفع التقرير إلى الرئاسات الثلاث ومجلس القضاء الأعلى"، مبدياً امتعاضه من "اقتراح قانون قدّمه أحد النواب للفصل والتمييز بين الضحايا اللبنانيّين والأجانب لناحية التعويضات، وقد أرسلنا تقريراً بهذا الخصوص إلى اللجنة المعنية بمكافحة التمييز العنصري في الأمم المتحدة". ويشير إلى أنّ "إعداد التقرير امتدّ منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2020 وحتى مارس/ آذار 2021، ويسلّط الضوء على الفئات المهمّشة كافّة، فهناك نساء فقدن أزواجهن خلال الانفجار، وواجهن مشاكل في الحضانة والإرث مع عائلات أزواجهن، في ظلّ وجود قوانين تمييزية مجحفة فاقمت من مصيبتها".

مآسٍ لا تندمل
تذكر امرأة ناجية في التقرير أنه "في غمضة عين تغيّر عالمي، مات زوجي من جراء الانفجار وسلبت الدولة أطفالي مني مباشرة بعد ذلك". في الوقت نفسه، يلحظ التقرير ارتفاع معدّلات العنف القائم على النوع الاجتماعي وفقدان عدد من الأطفال للضمان الاجتماعي لدى وفاة آبائهم، ليبقوا من دون رعاية طبيّة. ولم يُسمح لأمهاتهم بشملهم في عقد الرعاية الخاص بها. كذلك، يتحدث التقرير عن "تمييزٍ في كلّ جوانب الاستجابة الإنسانيّة حيال أفراد مجتمع الميم وتعرّضهم للاستغلال والاعتداء، ما أدّى إلى ارتفاع حالات القلق والاكتئاب والتفكير بالانتحار بل ومحاولات الانتحار لديهم. كذلك، لم يتمكّن أيّ من الأشخاص الذين جرت مقابلتهم من الاستفادة من مساعدات المؤسسات الأمنيّة اللبنانيّة، بسبب مخاطر تعرّضهم للتنمّر والسخرية والإساءة اللفظيّة والجسديّة. وثبُت أنّ عدداً من المنظّمات غير الحكومية التي تقدّم المساعدات الإنسانيّة كانت تُبدي نوعاً من الكراهيّة في التعامل مع المثليّين المستفيدين".

انفجار مرفأ بيروت (حسين بيضون)
(حسين بيضون)

وفي السياق، واجه كبار السنّ "صعوبة في الوصول للإغاثة الإنسانيّة، إذ لم يتمكّنوا من مغادرة منازلهم، ولم يتلقوا الرعاية الصحية اللازمة، ولم توفر ملاجئ موقتة لأي من الأشخاص الذين جرت مقابلتهم، بينما كان العديد منهم ينامون في أماكن خطرة وظروف غير آمنة". ويروي علي قصّة ابنته قائلاً: "لم تعد طفلتي البالغة من العمر أربع سنوات قادرة على النوم بمفردها، وكلّما سمعت صوت طائرة، تختبئ ويسيطر عليها الذعر". وبحسب المنظّمة الدولية للهجرة، فقد تضرّر 24600 عامل/ة أجنبي/ة من الانفجار، ولم تعرض الدولة على أيّ من العمّال والعاملات الأجانب، المستجوبين/ات في التقرير، تعويضات عن منازلهم المدمّرة، وما زالوا يعيشون في أوضاع مزرية وغير آمنة. وتعرّضت بعض العاملات الأجنبيّات للتّحرّش الجنسي والعنف.
كما عانى العمّال الأجانب واللاجئون السوريون من التمييزعندما تعلَق الأمر بالمساعدات الإنسانيّة. ويقول لاجئ سوري: "لم أتخيل يوماً أن أشهد أوقاتاً أصعب من تلك التي عشتها في دمشق. لكنّ هذا الانفجار سلب منا كل شيء". أمّا أحد الأشخاص ذوي الإعاقة، فيقول: "أتقبل مصيري وأتقبّل أنّ هذا الانفجار سلبني قدرتي على التحرّك، لكنّني لن أتنازل عن حقوقي. نحن بحاجة إلى تعويض مناسب ورعاية من قبل الحكومة". وتفيد معطيات "الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً"، بأنّ "ما يقارب 100 حالة من الأشخاص ذوي الإعاقة الجُدد لم تنتهِ بعد من العلاج، وتحتاج إلى عمليّات عاجلة لا تغطّيها وزارة الصحة"، كما نقل التقرير.  

المساهمون