بشكل غير مسبوق، بدأت العديد من الأنهار في كل من أوروبا وأميركا وآسيا تواجه جفافاً كبيراً. وعادت صخور قديمة تحمل تحذيرات خطرة إلى الظهور فيما تخيم موجة جفاف طويلة الأمد على الجزء الأكبر من القارة الأوروبية. وتُسمّى هذه الصخور "حجارة الجوع"، وتظهر في مجرى الأنهار ولا يمكن رؤيتها إلا عندما تكون مستويات المياه فيها منخفضة للغاية.
وما زال عدد من الأنهار الأوروبية، كإلبه والراين وويس، يحتفظ بحجارة الجوع هذه التي نقشت على سطحها تحذيرات قاتمة لسيئي الحظ الذين تتسنى لهم رؤيتها.
وظهر أحد هذه الحجارة على ضفة نهر إلبه في مدينة ديتشين في جمهورية التشيك أخيراً، ونقشت على الحجر عبارة "إذا رأيتموني فانتحبوا".
مجهول
تُشير العديد من التقارير إلى مدى عمق أزمة الجفاف التي ضربت أجزاء مختلفة من الدول من بينها الأنهار، الأمر الذي يهدّد بأزمة كبيرة تتعلّق بالمياه العذبة. وبحسب البنك الدولي، فإن 2.5 في المائة من إجمالي المياه الموجودة على الأرض (1.4 مليار كيلومتر مكعب)، هي مياه عذبة، ويتم استخدام حوالي 0.3 في المائة فقط من هذه المياه، إذ إن الباقي متجمد أو تحت الأرض. مع ذلك، فإن الجفاف بدأ يضرب منابع المياه العذبة.
وأدت قلة هطول الأمطار منذ بداية يوليو/ تموز الماضي في فرنسا وارتفاع درجات الحرارة إلى تفاقم الجفاف في أنحاء البلاد، وتراجع منسوب المياه في نهر لوار، وسط فرنسا، وهو أطول نهر يتدفق على كامل الأراضي الفرنسية. كما أدت أسوأ موجة جفاف تشهدها أوروبا منذ سنوات إلى انخفاض منسوب المياه في نهر الدانوب لأدنى مستوياته منذ نحو قرن، الأمر الذي كشف عن هياكل عشرات السفن الحربية الألمانية التي غرقت خلال الحرب العالمية الثانية، وهي محملة بالمتفجرات بالقرب من ميناء براهوفو الصربي المطل على النهر.
وتعيش مناطق عدة في العالم اليوم على خطط خفض استهلاك المياه، وبينها 7 ولايات في الغرب الأميركي والمكسيك تستفيد من موارد المياه التي يوفرها نهر كولورادو، والتي تنحسر منذ نحو 23 عاماً بسبب تغيّر المناخ. وينقل تقرير نشره موقع "سميثسونيان" أن حكومة ولاية كولورادو قررت أخيراً خفض إمدادات المياه بكميات غير مسبوقة لولايتي نيفادا وأريزونا والمكسيك، وأن مسؤوليها يقولون إنه "يجب عمل المزيد لإدارة إمدادات المياه المتضائلة".
وفي أغسطس/ آب الماضي، أفادت وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا) بأن بحيرة بويانغ تقلصت الآن في أحد أحواض الفيضان المهمة لنهر يانغتسي بمقاطعة جيانغشي بوسط الصين إلى ربع حجمها الطبيعي لهذا الوقت من العام. وانخفض هطول الأمطار في تشونغتشينغ خلال العام الجاري بنسبة 60 في المائة مقارنة بالمعدل الموسمي، كما أن التربة في العديد من المناطق تعاني من نقص شديد في الرطوبة.
واقع دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى تخصيص جزء من مناقشات الأسبوع العالمي للمياه الذي بدأ في الثالث والعشرين من أغسطس/ آب الماضي واستمر حتى الأول من سبتمبر/ أيلول الجاري، لتناول موضوع الجفاف وسوء إدارة المياه.
نقص المياه العذبة
يعزو مدير معهد الموارد المائية والتكنولوجيا البيئية في الجامعة اللبنانية الأميركية جان شاتيلا انخفاض نسبة مياه الأنهار عالمياً إلى التغيرات المناخية المتسارعة والاحتباس الحراري، ويقول لـ"العربي الجديد": "يعدّ التغير المناخي السبب الرئيسي الأول لجفاف الأنهار؛ فقد ساهم التغير المناخي خلال السنوات الماضية في تبديل أنماط الطقس، وأصبحت العديد من الدول الأوروبية تمتاز بطقس ربيعي نوعاً ما، أو يمكن القول بطقس حار في الصيف ومعتدل نسبياً في الشتاء، الأمر الذي أثر على نسبة التساقطات وبالتالي المياه العذبة. أما السبب الثاني، فيعود سببه إلى الاحتباس الحراري الذي أدى إلى زيادة كبيرة في جفاف الأنهار والمستنقعات المائية. فكلما زاد الاحتباس الحراري، ارتفع معدل تبخر الأنهار وبالتالي الجفاف".
وعلى الرغم من أن العوامل الطبيعية لعبت دوراً في جفاف الأنهار، إلا أن العوامل البشرية فاقمت الأمر، بحسب دراسة لمجلة Interesting Engineering المتخصصة بالشؤون الهندسية والعلمية، وخلصت إلى أن جفاف الأنهار الرئيسية في العالم كان سببه إنشاء السدود واستخدام المياه في الزراعة والتلوث.
وتشير إلى أن أكثر من 70 في المائة من المياه العذبة تستخدم في الأنشطة الزراعية على مستوى العالم. وفي ظل النمو المستمر في عدد السكان حول العالم والمتوقع أن يصل إلى 9 مليارات عام 2050، وزيادة الطلب على المنتجات الزراعية، سيزيد الضغط على الأنهار، كما أشارت إلى أن بناء السدود لتوليد الطاقة الكهرومائية يجعلها جافة في النهاية.
من جهته، يقول أستاذ مادة البيئة في جامعة القديس يوسف في بيروت، الخبير مازن عبود، إن الممارسات البشرية كان لها دور في الأزمة الحاصلة، ويقول لـ"العربي الجديد": "منذ سنوات، دقت الأمم المتحدة ناقوس الخطر بشأن كيفية إدارة المياه العذبة، لكن الممارسات البشرية من بناء السدود إلى توليد الطاقة الكهربائية بشكل عشوائي، وخصوصاً في الدول النامية، أثرت بشكل أكبر على مياه الأنهار"، يضيف: "على الرغم من أن الرأي العام العالمي تناول جفاف الأنهار الكبرى، لكن ذلك لا ينفي أن مناطق أخرى حول العالم تعاني منذ سنوات من أزمة المناخ والممارسات البشرية"، ويعتقد أن التحدي الأكبر يكمن في كيفية مواجهة التطرف المناخي قبل أن تصبح الأزمة متعلقة بمستقبل البشرية".
ماذا عن التأثيرات؟
تختلف تأثيرات انخفاض مستوى مياه الأنهار على مختلف جوانب الحياة البشرية، وقد تزول قرى ومدن بأكملها، ما يعني أن العالم سيشهد موجات جديدة من الهجرة، ناهيك عن التغيرات الديموغرافية في الكثير من الدول، بحسب عبود، الذي يوضح أن التأثيرات لا تقف عند هذا الحد، فقد تتأثر الأراضي الزراعية إلى درجة كبيرة، ما يعني ارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية، وندرة بعضها وبالتالي حصول مجاعات في الكثير من الدول.
وبحسب موقع "يورونيوز" الإخباري، فإن جفاف نهر "بو" الإيطالي سيؤثر على السهول الخصبة في شمال إيطاليا، إذ يساعد النهر في إنتاج حوالي 30 في المائة من الغذاء في إيطاليا.
أما بالنسبة إلى باقي الأنهار الأوروبية، فمن المرجح أن تتأثر الحركة الاقتصادية، ما قد يزيد من حدة الأزمات المعيشية والاجتماعية. على سبيل المثال، فإن منسوب نهر الراين لم يعد صالحاً لنقل البضائع والري والتصنيع وتوليد الطاقة، إذ انخفض إلى أقل من 40 سم، وهو المستوى الذي تعتبره العديد من شركات الشحن غير ناجع اقتصادياً لتشغيل المراكب. أما فرنسا، فقد تعاني على سبيل المثال من انقطاع في التيار الكهربائي، إذ تلجأ العاصمة باريس إلى الأنهار لتبريد المحطات النووية التي تنتج 70 في المائة من الكهرباء في البلاد.
في أميركا، يعتمد حوالي 40 مليون شخص في سبع ولايات والمكسيك على مياه نهر كولورادو للشرب والزراعة والكهرباء.
أما تأثيرات جفاف نهر يانغتسي فكبيرة جداً. ففي مقاطعة سيتشوان الصينية التي يبلغ عدد سكانها 84 مليون نسمة، تشكل الطاقة الكهرومائية (الكهرباء المنتجة من الطاقة المائية) حوالي 80 المائة من قطاع الطاقة. ومع تباطؤ تدفق مياه النهر، يتضاءل توليد الطاقة.
هل من حلول؟
يقول الخبيران عبود وشاتيلا إن أي حلول لن تكون معزولة عن المحاولات الدولية لمواجهة تغير المناخ بشكل عام، إذ لا يمكن مواجهة جفاف الأنهار من دون وجود خطط دولية وجهود عالمية لمواجهة التغيرات المناخية. ويرى شاتيلا أن عدم الالتزام بتطبيق اتفاقية باريس للمناخ للحد من ارتفاع درجات الحرارة زاد من الأزمات المناخية التي يعيشها العالم بالإضافة إلى جفاف الأنهار. من هنا، يشدد على وجوب الخروج من الأطر النظرية حول ضرورة الالتزام بخفض درجات الحرارة واتخاذ تدابير فعلية كالحد من انبعاثات الكربون، كما يؤكد إمكانية مواجهة أزمة جفاف الأنهار عالمياً من خلال وضع خطط لإدارة الأزمات تتعلق بكيفية الاستفادة من مياه الأمطار وتخزينها وإعادة استخدامها.