هجر آلاف من المزارعين العراقيين أراضي زراعية تبلغ مساحتها ملايين الدونمات بسبب ندرة المياه، وعدم قدرة القطاع الزراعي الذي يعتمدون عليه كمصدر رئيسي للعيش، على توفير المال اللازم لمواصلة العمل، أو الكافي للبقاء في مناطقهم، الأمر الذي ساهم بشكل مباشر في تزايد هجرة سكان الريف إلى المدن بحثاً عن فرص حياة أفضل.
وكشفت بعثة الأمم المتحدة في بغداد، في تقرير نشرته نهاية العام الماضي، أن العراق من بين الدول الخمس الأكثر تضرراً من التغيرات المناخية على مستوى العالم، وفي المرتبة 39 بين الدول الأكثر إجهاداً في ملف المياه.
وتؤكد وزارة التخطيط العراقية أن الهجرة إلى المدن مستمرة منذ عقود، لكنها زادت في السنوات الأخيرة بسبب قلة الإطلاقات المائية في نهري دجلة والفرات، فضلاً عن قلة هطول الأمطار في أنحاء البلاد. يقول الناطق باسم الوزارة، عبد الزهرة الهنداوي، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إن "فرق الوزارة تُشخّص باستمرار عمليات الهجرة نحو المدن، وقد سجلت اختفاء بعض القرى نتيجة التغيرات المناخية، وانعدام فرص العمل، الأمر الذي يدفع السكان إلى البحث عن خيارات بديلة في سوق العمل المتنوع في المدن".
يضيف الهنداوي أن "الهجرة من مناطق الريف تسببت في إحداث تغيير ديموغرافي كبير، وترتب عليها نشوء وحدات سكنية غير نظامية أو عشوائية على أطراف مراكز المدن، وبين ضواحيها، ما أدى إلى ضغط كبير على البنية التحتية لتلك المدن، إلى جانب تفاقم الأزمات الاجتماعية بين الوافدين من المناطق الزراعية وبين سكان المدينة الأصليين. أزمة ندرة المياه تسببت أيضاً في اختفاء بعض المهن، وظهور مهن أخرى، ما دفع الفلاحين إلى اللجوء إلى تلك الأعمال، وهذا الأمر ولّد ضغطاً كبيراً على سوق العمل".
ويوضح أن هناك إجراءات ستتخذها الحكومة لتخفيف حدة آثار التغير المناخي، تتضمن خططاً للتنمية الريفية وفقاً للظروف الراهنة، وضمن خطة مدتها 5 سنوات، كما تمكنت وزارة التخطيط من عمل مسح ميداني للقرى والمناطق التي باتت غير مأهولة بالسكان نتيجة الجفاف، وهي حالياً في طور وضع خطة خمسية تأخذ على عاتقها وضع حلول للأزمة في هذه المناطق.
ويلفت الهنداوي إلى أن "الحكومة وجهت بدعم الفلاحين والمزارعين الذين يستخدمون وسائل الري الحديثة بما يحتاجونه من مستلزمات وأسمدة، وتم تسديد الاستحقاقات الخاصة بهم من بيع محصولي الحنطة والشعير في وقت قياسي، وكل هذه الإجراءات تهدف إلى معالجة آثار التغيرات المناخية وندرة المياه".
ينتمي الخمسيني العراقي أبوحسين، إلى إحدى قرى محافظة ميسان (جنوب)، ويؤكد أن الظروف اضطرتهم إلى ترك أراضيهم، والبحث عن سبيل لمغادرة المنطقة، في محاولة للتكيف مع الواقع الجديد. يتابع: "كنت أمتلك أكثر من مائة دونم وفيرة الإنتاج في موسمي الصيف والشتاء، إلا أن الجفاف حوّلها إلى أراض قاحلة لا تصلح للزراعة، كما أن أزمة المياه تسببت في نفوق المواشي، فخسرنا كل ما نملك، ولم يعد يتوفر لنا أي سبيل للعيش. الأمر الذي دفعنا باتجاه المدينة بحثاً عن فرصة عمل توفر لنا ولأبنائنا مصدراً للعيش".
وتعتبر محافظات ميسان وواسط وذي قار، من أكثر محافظات العراق تضرراً، وتليها محافظة ديالى، والتي سجلت هجرات واسعة من القرى إلى مراكز المدن خلال الفترة الأخيرة.
هجر محمد عبدالله (64 سنة) قريته الواقعة شمال شرقي ديالى، بعد تعرّضها للجفاف، ونزح إلى مدينة المقدادية، وهو يشكو معاناته في الاندماج مع سكان المدينة بسبب اختلاف أساليب الحياة، والفارق الطبقي بين أهل المدينة والوافدين إليها، ويصف حياة الريف بأنها كانت أكثر طمأنينة.
يضيف عبدالله أنه كان يملك مصدر دخل دائم في القرية من خلال أرضه الزراعية، مبيناً أن "جفاف نهر ديالى تسبب في جفاف الحياة في الأراضي المحيطة به، وارتفاع ملوحة الأرض، وصارت الحشرات تهاجم الناس التي لا تجد ما تسد به رمقها. تخيل أن بلاد الرافدين باتت بلا مياه، وأن عائلة الحاج عبدالله تشتري من البقال الخيار والطماطم، ولا يأكلون من أرضهم الممتدة إلى خاصرة النهر، أو ما كان نهراً. الجفاف تسبب في خسائر فادحة للمزارعين، وفاقم ارتفاع درجات الحرارة في الصيف الأوضاع. المعاناة باتت أكبر، مناخياً واقتصادياً، وحتى نفسياً داخل جميع القرى والأرياف".
يمتلك رياض الناصري، مكتب وساطة عقارية في حي الحسين بمدينة الناصرية (جنوب)، ويقول لـ"العربي الجديد"، إن "الناس تأتي من مختلف القرى، ومن الأهوار بحثاً عن منازل للإيجار. لا يمر أسبوع إلا ويأتي إلينا أشخاص قادمون من القرى التي ضربها الجفاف بحثاً عن سكن، وبسبب ضعف حالتهم المادية يبحثون في مناطق أطراف المدينة عن منازل بسيطة".
ويضيف الناصري "كثير من الفلاحين يلجأون إلى العمل بسيارتهم الخاصة كسائقي تاكسي لتوفير سبل العيش، في محاولة للتكيف مع الوضع الجديد، وآخرين لا يمتلكون سيارات، فيختارون العمل في مشروعات البناء بأجر يومي، وكل هذا جديد عليهم، كما أنه وضع محزن في الوقت نفسه".
وفي 24 يونيو/حزيران الماضي، أعلنت السلطات المحلية في محافظة ميسان، جفاف "أهوار العودة"، وهي إحدى أكبر المسطحات المائية في المحافظة، وانعدام التنوع الأحيائي فيها بالكامل، مؤكدة هجرة سكان بعض القرى المحيطة بالأهوار.
ويرى الخبير الاقتصادي أحمد الخفاجي، أن "عواقب التحديات المناخية التي يواجهها العراق، لاسيما تلك المتعلقة بندرة المياه، لها آثار بعيدة المدى، وتتطلب اتخاذ إجراءات رسمية منسقة لتخفيف الاحتياجات، وتجنب مزيد من النزوح، ومنع تفاقم المشاكل الاجتماعية القائمة".
ويؤكد الخفاجي لـ"العربي الجديد"، ضرورة اتباع نهج ذي شقين لتعزيز قدرة المناطق التي تشهد تدفقاً سكانياً على التكيف، وفي الوقت ذاته تقديم الدعم إلى المناطق الريفية التي تهاجر منها الأسر بسبب التدهور البيئي الشديد، وانعدام فرص العمل، والدمار الاقتصادي الكبير.