استمع إلى الملخص
- التحديات الإنسانية والاقتصادية: العائدون يواجهون ظروفًا صعبة مع نقص الخدمات الأساسية، ويطالبون بالدعم العاجل لتوفير السكن والتدفئة والمساعدات المالية.
- الأثر الاجتماعي والنفسي للحرب: الحرب أثرت على التعليم والصحة، والعاملون الطبيون يعانون نفسيًا، مما يستدعي دعمًا نفسيًا واجتماعيًا للتعافي وإعادة البناء.
تؤكد تقارير دولية عدة أن حجم الدمار في لبنان كارثي، وأن آلاف المباني سويت بالأرض، وأعداد أكثر تضررت جزئياً، ولا يتوفر بعد إحصاء رسمي يوثق حجم الدمار والأضرار.
تقرر وقف إطلاق النار في لبنان عبر مفاوضات معقدة بعد ساعات دامية سبقت الاتفاق، وشهدت تصاعد القصف على مناطق لبنانية عدة، من بينها محافظة بعلبك - الهرمل (البقاع الشمالي)، التي استهدفتها نحو 200 غارة إسرائيلية، خصوصاً في مدينة بعلبك ومحيطها، والتي سجل فيها وحدها 37 شهيداً، وأعداداً من الجرحى.
وساهمت الغارات العنيفة، إضافة إلى الطقس البارد، في تأخير عودة النازحين، والتي كانت خجولة في صباح اليوم الأول، ما لبثت أن تزايدت في ساعات الظهيرة، لكن العائدين أصابهم الذهول من مشاهد الخراب والدمار، وتحول البيوت والممتلكات إلى أكوام من الردم.
ويعيش غالبية اللبنانيين حالة من القلق المتصاعد خشية انهيار اتفاق وقف إطلاق النار في أي لحظة، والعودة إلى لغة المدافع، ومنطق الدمار والخراب. ويريد اللبنانيون قيام دولة حرة على كامل تراب بلدهم، تقيهم الأخطار، وتنقلهم من منطقة تعيش على سطح برميل بارود قابل للاشتعال والانفجار مع أصغر خطأ، إلى دولة حقيقية تعمل على راحة شعبها، وتخطط لازدهار سكانها وتنمية مناطقهم.
تمايزت آراء العائدين لكنّ الجميع مفجوعون وفي حاجة إلى المساعدة
إلى ذلك، تمايزت آراء النازحين العائدين بين من يهتف بالفداء والولاء لحزب الله قائلين: "كل مالنا وأرواحنا فدى الحزب والشباب"، وبين المتفجعين على ضياع الأرزاق والممتلكات، بخاصة غير المحسوبين على أي جهة حزبيّة، ومن ليست لديهم مرجعية سياسية أو طائفية أو مناطقية.
عاد أبو علي ابن مدينة بعلبك، إلى مسقط رأسه بعد نزوحه مع عائلته إلى بلدة دير الأحمر المجاورة، ليجد بيته أثراً بعد عين، ويقول لـ"العربي الجديد" بحسرة وغضب: "بعيداً عن المجاملات والمواربة وتنميق الكلام، أنا مستقل، وغير محسوب على أي فريق طائفي أو سياسي، فمن يعوض علي بيتي وجنى عمري؟ إذا حصلت على تعويض فهل سيكون ضمن حقي مواطناً، أم مشروطاً برضى فلان؟ لا بيتي ولا عائلتي فداء لأحد، ولن يكون كذلك في المستقبل. أبيت حالياً في بيت أخي، لكني سأتدبر بيتاً يؤوي أولادي حتى تتضح الأمور".
يضيف: "ينبغي أيضاً تدبر أمور المدرسة، وتجهيز أبنائي الثلاثة بالكتب والقرطاسية والمريول، وكلها تركناها في المنزل قبل مغادرتنا، كما أننا في فصل الشتاء، وعلينا تدبر أمر البرد بسرعة. لا أستطيع أن أكون عالة على أخي، وكلي أمل أن تتصرف الدولة كدولة مع مواطنيها، مع أننا جميعاً نعرف الواقع. ولا يمكن تجاهل توجيه التحية إلى أهالي منطقة دير الأحمر على كل ما قاموا به من استضافة واحتضان ونخوة، وإن شاء الله نرد لهم معروفهم".
في ليلة الاتفاق، جمع نازحون كثيرون أمتعتهم، ومع شروق الشمس انطلقوا إلى بلداتهم غير آبهين بالتحذيرات ودعوات التروي بالعودة. من بين هؤلاء حسن البزال، ابن بلدة البزالية (قضاء بعلبك)، والذي يقول لـ"العربي الجديد"، حول ما وجده عند عودته: "عدت إلى منزلي فوجدته مدمراً بالكامل، على الأرض. كنت نازحاً إلى بلدة القاع المجاورة، والآن سأنصب خيمة فوق ركام المنزل للمبيت فيها رغم الطقس العاصف، وسأضع فيها مدفأة. نرفض العيش نازحين، فالإقامة قرب منازلنا المدمرة أفضل، ربما أعيش عند أقربائي أو الجيران، وإن لم أجد مكاناً فسأكتفي بالخيمة. أنا وكل ما أملك فداءٌ للمقاومة ورجالها".
في المقابل، يرى أحد العائدين الذي فضل عدم ذكر اسمه، أن "الشعارات الرائجة مكانها شاشات التلفزيون، لكن عندما يختلي الإنسان بنفسه، ويعود إلى إنسانيته، فإنه يعيد التفكير. حين يفقد الإنسان بيته، بخاصة في فصل الشتاء، ستبرز الكثير من الأسئلة. ما الذي سيقوله لأبنائه؟ وكيف سيقنعهم بالسكن في خيمة؟ وكيف يؤمن لهم جو الدراسة؟ أو يقيهم من البرد والأمطار؟ أين ستكون دورة المياه؟ وغيرها من الأسئلة الواقعية التي لا تنفع معها الإجابات العاطفية".
وطاول القصف والتدمير أغلب قرى المحافظة، وترك طرقاتها مقطوعة، وبعضها غير صالح للسير، وتنتشر عليها السيارات المحروقة، والحطام المتناثر، كما طاولت الأضرار شبكات المياه، وجعلتها خارج الخدمة، والأمر نفسه ما يخص شبكة الكهرباء، وهي في حاجة إلى عمليات صيانة كبيرة لإعادة الخدمات، وينسحب الأمر ذاته على شبكات الهاتف التي طاولها القصف والتخريب.
وخلفت الغارات الإسرائيلية أضراراً كبيرة في بوداي، وبيت مشيك، والنبي شيت، وبريتال، ويونين، والبزاليّة، والعين، والهرمل، وغيرها من البلدات والقرى، وسجلت المحافظة 1060 شهيداً، وأكثر من 2300 جريح، عدا عن المفقودين تحت الأنقاض، وهؤلاء عددهم غير معروف.
تقول عليا الحاج قاسم، ابنة بلدة بوداي، في اتصال مع "العربي الجديد": "ليس الوقت مناسباً للحديث عن أي مجاملات. فقدنا أهلنا وبيوتنا وبلدتنا، وهناك أحبَّة لن نراهم بعد الآن، وجنى أعمارنا ضاع، ولن يعوضنا أحد. عندما وصلنا إلى بوداي لم أصدق أنها بلدتي، وكدت أضيع في البلدة التي عشت فيها ستين سنة هي كل عمري. لا أعرف ما الذي سيحصل، فالموضوع ليس بيدنا، بل بأيدي جماعة الحل والربط، وهم أصحاب القرار، أعاننا الله وصبّرنا".
ويرى البعض أن اتفاق وقف إطلاق النار ضبابي وهش، بينما هناك من يراه راسخاً يُبنى عليه، غير أنه يترافق مع برد الشتاء الذي يشكل عبئاً ثقيلاً على كاهل كل سكان البقاع في الظروف الطبيعية.
عاد حسن إلى بلدته العين، شرق مدينة بعلبك، صباح الأربعاء الماضي، بعد ساعات من دخول وقف النار حيز التنفيذ، ليكتشف أن بيته بات غير صالح للسكن، وقد ينهار في أي لحظة، ويقول لـ"العربي الجديد": "نطالب الدولة والأحزاب، وكل من يريد مساعدة شعب لبنان بسرعة التحرك. من مات يرحمه الله، لكننا أحياء في العراء، وعلى الجميع التحرك لمساعدتنا، إذ لا نملك ترف الانتظار في ظل البرد والتشرد والعوز. المطلوب تأمين بدائل سكنية للناس، وتوفير التدفئة لأنها تمثل أولوية في الوقت الراهن. ضحايا الحرب كثيرون، بين من فقد حياته أو قريباً له، ومن فقد بيتاً كان يؤويه، وآخرون فقدوا مصادر رزقهم، وباتوا بلا عمل، وهم ينتظرون ما ستؤول إليه الأمور، ومن سينظر لحالهم ويترأف بهم".
يقيم حامد ابن مدينة الهرمل في بلدة العين (قضاء بعلبك)، وهو سائق وأب لخمسة أطفال أكبرهم في الخامسة عشرة، وقد تعرض لجروح بليغة أثناء غارة استهدفت أحد منازل مدينة الهرمل خلال مروره قرب المنزل. يقول لـ"العربي الجديد": "نجوت بأعجوبة، وكتب الله لي عمراً جديداً، لكن ماذا سأفعل الآن؟ وكيف سأعيش؟ وكيف سأجني قوت عائلتي؟ يتوجب علي تسديد أقساط من ثمن السيارة التي اشتريتها بالتقسيط لعدم توفر ثمنها بالكامل، والحصول على التعويضات من الدولة سيستغرق أشهراً بالتأكيد، فمن يسدد أقساط السيارة، وأقساط مدارس أولادي؟ ومن يؤمن لنا تكاليف الحياة التي تتضاعف شتاء؟ كل هذا إذا لم تشتعل الحرب مجدداً، عندها سنفوت (نصطدم) بالحيط".
يضيف: "أنا أتفهم مواساة الناس، وأقدر مشاعرهم، لكن المشاعر لن تساعدني على توفير متطلبات الحياة، هل أذهب إلى السوبر ماركت لأشتري حاجيات البيت بالتعاطف؟ نحن بحاجة إلى من يساعدنا مالياً لكفاية العائلة، فالشعارات لا تطعم خبزاً، ولن تؤمن الدفء لأطفالي".
ولم تترك تداعيات الحرب قطاعاً إلا طاولته، فالمدارس تعطلت، والجامعات يجهل طلابها مصيرهم، والمطار تقلصت حركته إلى الحدود الدنيا، أما القطاع الصحي، ورغم صموده، فقد طاوله الإنهاك، وخسر الكثير من أفراده، من أطباء ومسعفين.
تعمل مي شاهين (26 سنة) ممرضة في مستشفى دار الأمل الجامعي، والتي قضى مديرها بقصف استهدف منزله، وتصف لـ"العربي الجديد"، بعض ما شاهدته من أهوال الحرب وبشاعتها منذ تفجيرات أجهزة البيجرز، وصولاً إلى الأيام التي سبقت اتفاق وقف إطلاق النار. تقول: "عشنا ويلات متكررة، من مشاهد الجثث والأشلاء، إلى الإصابات التي لن أنساها ما حييت. كبرنا عشرين سنة في ستين يوماً، وصور الأجساد الممزقة لا تفارقني، خاصة أجساد الأطفال، ولن أنسى مشاهد زملائي وزميلاتي وهم يبكون بحرقة من هول ما عشناه".