حيازة الأسلحة... الوباء الأخطر في الولايات المتحدة

02 يونيو 2022
القيود على حيازة الأسلحة محدودة في ولاية تكساس (جوشوا لوت/Getty)
+ الخط -

يكاد لا يمر أسبوع في الولايات المتحدة من دون تسجيل حوادث قتل بأسلحة نارية، كما لا يمر يوم تقريباً من دون تسجيل محاولات انتحار باستخدامها، ويفوق عدد الأسلحة الموجودة بحوزة الأميركيين العدد الكلي لسكان البلاد الذي يضم رضع وأطفالاً، إذ سجلت أكثر من 400 مليون قطعة سلاح في بلد عدد سكانه نحو 330 مليون نسمة، ما يعني أن بعض الأفراد يملكون عدداً كبيراً من الأسلحة.

وأعاد قتل 19 طفلاً في مدرسة بمدينة أوفالدي بولاية تكساس إلى الواجهة مجدداً الجدل الكبير حول مخاطر الانتشار الواسع للأسلحة النارية في الولايات المتحدة، والتي تبدو كمرض مزمن.
وعبر كثير من الأميركيين عن ذهولهم من مأساوية جريمة إطلاق النار في المدرسة، والتي كان ضحاياها من الأطفال، فضلاً عن اثنين من المدرسين، في حين يطرح مختصون مجدداً، ما إذا كان بالإمكان ترجمة هذا "الذهول العام" إلى خطوات تؤدي بالفعل إلى الحد من انتشار السلاح.
ترتفع الأصوات المنتقدة بعد كل حادث من هذا القبيل، وللواقعة الجديدة خصوصية من ناحية عدد الضحايا، فهي ثاني أكبر واقعة إطلاق نار جماعي في مدرسة في تاريخ الولايات المتحدة، والتي شهدت خلال الأسابيع الأخيرة عدداً من حوادث إطلاق النار الجماعية.
وحسب منظمة "أرشيف عنف السلاح" الأميركية، فإن عدد حوادث إطلاق النار الجماعي منذ بداية عام 2022، وصل إلى 213 حادثاً، وتطلق المنظمة على الحادث أنه "إطلاق نار جماعي" فقط إذا خلف أربعة ضحايا أو أكثر، بين قتيل وجريح، ولا يشمل ذلك الجاني.
ومع كل حادث قتل جماعي يروح ضحيته عدد كبير من الأبرياء يُلاحظ تكرار المطالبات بفرض قيود جديدة على اقتناء الأسلحة، من بينها عدم السماح لمن هم دون الثامنة عشرة بشرائها، ومنع هؤلاء الذين يعانون من اضطرابات نفسية أو الذين أدينوا بجرائم معينة من شرائها.

قتل 19 طفلا في جريمة مدرسة تكساس (تشاندان خانا/فرانس برس)
قتل 19 طفلاً في جريمة مدرسة تكساس (تشاندان خانا/فرانس برس)

وتختلف قوانين اقتناء وحيازة الأسلحة من ولاية إلى أخرى. عموماً، يسمح في ولايات منها تكساس، بشراء وحمل السلاح علناً في الشارع من دون كثير من التدقيق في خلفية المشتري، وحتى لو تم التدقيق، فهذا لا يضمن أن مالك السلاح لن يستخدمه بشكل سيئ، كما لا يضمن عدم وقوع الأسلحة الموجودة في المنازل في أيدي الأطفال أو المراهقين، حيث لا يلتزم جميع مالكي الأسلحة بتخزينها بشكل آمن.
وبعيداً عن القتل الجماعي، فإن عدداً كبيراً من حوادث القتل الفردي، أو الانتحار، أو الاعتداء على أفراد العائلة، والقتل غير المتعمد تُستخدم فيها أسلحة مرخصة. في جريمة تكساس الأخيرة، اشترى الجاني الأسلحة بشكل قانوني عقب بلوغه سن الثامنة عشرة بفترة قصيرة.

وعلى الرغم من القوانين التي تجبر المتاجر على تدقيق خلفية المشتري، إلا أن ذلك لا يترجم بالضرورة إلى وقف عمليات القتل أو الانتحار. لكن منظمات غير حكومية ناشطة في هذا المجال ترى أنه يمكن أن يحد من رقعة انتشارها، ومن مخاطر وقوع جرائم القتل الجماعي.
وشهدت السنوات الأخيرة زيادة عدد الوفيات الناجمة عن الأسلحة النارية على الرغم من الحملات الإعلامية، وتكرار الاستنكار بعد كل حادث، كما زاد شراء الأميركيين للأسلحة، حسب البيانات الفدرالية.
يشير "مركز پيو للأبحاث"، وهو مركز مستقل، إلى أن مبيعات الأسلحة في الولايات المتحدة شهدت ارتفاعاً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، إذ زادت في عام 2020 بنسبة 20 في المائة مقارنة بعام 2019، ويلفت المركز إلى أنه وفقاً لنظام فحص الخلفية الجنائية للمتقدمين لشراء الأسلحة التابع لمكتب التحقيقات الفدرالي، فإن عدد الفحوص التي انتهى منها المكتب في شهر يوليو/ تموز 2020، وصل إلى 3.6 ملايين عملية تدقيق، في زيادة بنسبة أكثر من 44 في المائة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019.
بالعودة إلى الوفيات الناتجة عن استخدام الأسلحة النارية، تشير دراسة صدرت عن جامعة ميشيغان، في شهر مايو/ أيار الماضي، إلى أن الوفيات زادت بنسبة 13.5 في المائة بين عامي 2019 و2020. واللافت في الدراسة أن نسبة الوفيات بين الأطفال والمراهقين ارتفعت بنحو 30 في المائة خلال هذين العامين، وتكشف الدراسة أن عدد الأميركيين الذي لقوا حتفهم نتيجة إطلاق نار متعمد أو غير متعمد تجاوز 45 ألف شخص خلال عام 2020، حسب إحصائيات صادرة عن "مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها" الحكومي، وأن غالبية الوفيات حدثت نتيجة الانتحار.

جريمة تكساس ثاني أكبر قتل جماعي في مدرسة أميركية (ميشيل سانتياغو/Getty)
جريمة تكساس ثاني أكبر قتل جماعي في مدرسة أميركية (ميشيل سانتياغو/Getty)

ويشير "مركز پيو للأبحاث" إلى أن الانتحار يشكل منذ فترة طويلة غالبية حالات الوفاة بالأسلحة النارية في الولايات المتحدة، ففي عام 2020، كانت 54 في المائة من جميع الوفيات المرتبطة بالأسلحة النارية في الولايات المتحدة ناجمة عن الانتحار، بعدد أكثر من 24 ألف وفاة، بينما كانت 43 في المائة منها جرائم قتل، أي أكثر من 19 ألف وفاة، وأكثر من 500 وفاة غير متعمدة بأسلحة نارية، وبقية الوفيات لأسباب أخرى.
هذه الأرقام المخيفة لا يتم الالتفات إليها بالقدر الكافي، أو ربطها بإشكاليات انتشار السلاح بشكل واسع، بل يدور الجدل عندما يشهد البلد إطلاق نار جماعي حول فحص الخلفيات والقوانين، ولا تتعمق النقاشات حول فرض المزيد من القيود على حيازة السلاح، أو حول ما إذا كان يجب السماح بحيازة السلاح عموماً.
وأعادت جريمة مدرسة أوفالدي بولاية تكساس إلى الأذهان جريمة قتل أخرى وقعت قبل عشر سنوات في مدرسة ساندي هوك في ولاية كونيتكت، وهي الجريمة التي سجلت أكبر عدد من القتلى في جرائم القتل العشوائي في داخل المدارس، إذ خلفت مقتل 26 طالباً، وأحدثت صدمة كبيرة، ومتابعة إعلامية كثيفة، وأتاحت المجال لنقاش محتدم داخل الولايات المتحدة حول انتشار السلاح في الولايات المتحدة، والذي يتعامل معه المختصون باعتباره "وباءً متفشياً".
اعتقد كثيرون أن الاستهجان الذي سببته تلك الجريمة سيؤدي إلى تغييرات جذرية، وأنه قد ينتج عنه سن قوانين جديدة تكبح انتشار الأسلحة النارية، لكن الوعود التي قطعت ظلت من دون ترجمة فعلية على أرض الواقع.
وكان الرئيس الأميركي آنذاك، باراك أوباما، قد تعهد بإدخال إجراءات تنفيذية جديدة بغية تشديد القيود على اقتناء الأسلحة النارية. لكن الإجراءات التنفيذية تبطل عادة مع انتخاب رئيس جديد لا يتفق معها، وهذا ما حدث بالفعل مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وتعهد الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، بإدخال إجراءات تنفيذية وتشكيل لجنة مشتركة من أعضاء الكونغرس من الحزبين في محاولة للتوصل إلى اتفاق حول تعديلات على القوانين القائمة المتعلقة بفحص خلفية المتقدم لشراء السلاح أو الترخيص. لكن جميع هذه الإجراءات تعمل على تخفيف الآثار، ولا تتطرق لجذور المشكلة.

الأهالي مصدومون من هول جريمة مدرسة تكساس (تشاندان خانا/فرانس برس)
الأهالي مصدومون من هول جريمة مدرسة تكساس (تشاندان خانا/فرانس برس)

يصر كثير من الأميركيين على أن حيازة السلاح حق ينص عليه الدستور، ويعد اقتناء الأسلحة في بعض الأوساط جزءاً من ثقافتها المتوارثة، وقد عززت من هذه التوجهات حملات مكثفة قامت بدعمها "الجمعية الوطنية للبنادق" (NRA)، والتي تأسست في عام 1871، بعد انتهاء الحرب الأهلية، وكان الهدف من تأسيسها تدريب الأميركيين على استخدام السلاح بصورة صحيحة. لكن الجمعية مرت بمراحل تطور، وطرأت تغييرات على سياستها، قبل أن يتزايد نفوذها تدريجياً وخصوصاً في منتصف سبعينيات القرن الماضي، لتصبح مع الوقت جماعة ضغط تروج لاقتناء الأسلحة، وتزكي مخاوف الأميركيين، وتدعو إلى ضرورة اقتناء الأسلحة بغرض الحماية الذاتية، وهو أمر مرتبط بفكرة تأسيس الولايات المتحدة.
ويتحجج مؤيدو "الجمعية الوطنية للبنادق"، وعموم المؤيدين لحيازة السلاح، بنص الدستور الأميركي، وتحديداً البند الثاني الذي يشرع الحق في حيازة السلاح، في تجاهل كامل للسياق التاريخي الذي وضع فيه هذا الحق.
وتدعو منظمات غير حكومية معنية بالحد من انتشار الأسلحة في الولايات المتحدة بشكل متكرر إلى تشديد القيود على اقتنائها، لكن تلك الدعوات لا تقابل بترجمة فعلية على أرض الواقع، على الرغم من تأييد كثيرين لها، فالإرادة السياسية، وسيطرة لوبي الأسلحة، أو بالأحرى تمويله بشكل مباشر وغير مباشر لحملات السياسيين، خصوصاً في انتخابات الكونغرس، كلها تلعب أدواراً رئيسية في تقاعس كثير من الساسة عن التصدي لسن القوانين اللازمة لتقييد حيازة الأسلحة على المستوى الفدرالي.
لكن حتى لو تم إقرار تلك القوانين، فإن عدداً كبيراً من الوفيات تسببه الأسلحة المرخصة، ما يعيد النقاش إلى نقطة البداية المتعلقة بفكرة السماح بحيازة الأسلحة على نطاق واسع.

المساهمون