خالد الحلبي... عود دمشقي "صنع في كندا"

تورنتو

مصطفى عاصي

avata
مصطفى عاصي
صحفي لبناني مقيم في كندا
10 ديسمبر 2020
خالد الحلبي
+ الخط -

جده جودت الحلبي نقش على زند آلة العود التي أهداها إلى "كوكب الشرق" المغنية المصرية الراحلة أم كلثوم، عبارة "لا يُعرف المرء في عصره". كان هاوياً لأغاني أم كلثوم، فتحيَّن فرصة زيارتها إلى العاصمة السورية دمشق، عام 1955 ليهديها عوداً تفنّن في صنعه من القصب، واستقر بعد وفاتها عام 1975، في متحفها في القاهرة.
ومن الجدّ، إلى الحفيد خالد بشار الحلبي، الذي كتب على زند العود الذي أهداه إلى رئيس وزراء كندا عام 2019 مطلع النشيد الوطني الكندي "أو كندا" فيما نقش على ظهره العلم الكندي. هو الشاب الثلاثيني المولع بجاستن ترودو، هذه المرة، والذي تحيّن الفرصة كي يلتقيه ليقدّم له ذلك العود الذي صنعه بكثير من العناية، ليمثل عربون وفاء وشكر لرئيس وزراء كندا ولسياسته في استقبال آلاف اللاجئين السوريين.
عودان ربما يتماثلان في الجودة والروح اللتين جُبلا بهما، لكنّ كلاهما يحكي عن عصرِ وحالِ أمّةٍ ووطن. دمشق بشجنها وضفائرها وعبق ياسمينها وطِيب عيشها كما عاصرها الجد، لم تعد دمشق كما عاصرها الحفيد، بل استحالت شيئاً آخر بعدما شحبت وتعبت من الحرب. وبين ورشة الجد ثم الوالد في منطقة داريا بضاحية دمشق، وبين ورشة الحفيد في إحدى ضواحي مدينة تورنتو في كندا، كلّ الفرق. هناك يتكوَّن العود في بيئته وبين أهله، وتقلبه أنامل تعشق شجن أوتاره، وهنا يتكوَّن العود في وحشة الغربة، ويلسعه صقيع كندا.

العوّاد خالد الحلبي في تورونتو- العربي الجديد

منذ اجتازت الطائرة المحيط الأطلسي حاملة خالد وعائلته إلى كندا، تغيَّر الكثير في حياة هذا الحرفي. قائمة التغييرات تبدأ من اعتذاره لعدم تقديم القهوة العربية لزائريه، ولا تنتهي بتبدل رائحة الأخشاب بين يديه. القهوة وصوت فيروز كانا وما زالا أسلوب حياة عنده. في كندا، خسر طعم القهوة العربية من دون أن يألف صباحه قهوة "تيم هورتن" الكندية. وفي المقابل، ظلّ صوت فيروز صدَّاحاً في مرآب المنزل الذي حوّله إلى ورشة: "مرَّ بي يا واعداً وعدا مثلما النسمة من بردى... تحمل العمر، تبدده...".

العوّاد خالد الحلبي في تورونتو- العربي الجديد

وقبل أن يتبدد كلّ العمر، يعمل الثلاثيني خالد بجدٍ، فينسى نفسه ساعات منغمساً في تصنيع الأعواد، وتغمره جلبة المعدات والأخشاب والآلات. لا يحنّ خالد فقط لرائحة الهال، بل يحنّ أكثر لرائحة خشب الجوز الذي اعتاد أن يجلبه جده ووالده من بساتين الغوطة الشرقية ليصنعا منه ظهر الأعواد. فمن أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، إلى تورنتو التي لا تعرف شيئاً عن آلة العود، جاء خالد حاملاً مهنة عمرها أكثر من ألفي سنة، من مدينة تشتهر بأعوادها التي كلما شاخت كلما تجملت ورقَّ صوتها. خالد بهذا المعنى يمكن أن يكون سفيراً غير منصَّب للعود الشرقي في مدينة تورنتو. سفير يتكدر مزاجه في كلّ مرة يُلصِق فيها تلك الورقة التي تحدد شهادة المنشأ في جوف العود، فيقول متحسراً: "لماذا نكتب صُنع في كندا؟ أنا سوري وأعتز بسوريتي". ثم يستدرك: "لو كان الشرق يدرك أهمية العود والموسيقى، لما كنت الآن في كندا ولما حلَّ في دولنا ما حلّ". 

قضايا وناس
التحديثات الحية

سورية، ثم الأردن، فلبنان، ثم كندا، أربع محطات أو لنقل أربعة أضلاع تألفت منها تلك الصورة التي رسمت مسيرة هذا السوري الضنين بأفول واندثار مهنة تصنيع الأعواد في دمشق. في كلّ محطة ثمة إضافات وملامح صقلت حرفته وقوَّت عريكته مع الحياة. في سورية تعلَّم سر الصنعة طفلاً من والده بشار وجده جودت فتوصَّل لأن يصنع عوداً من ألفه ليائه بشكلٍ منفردٍ في عمر السادسة عشرة فقط. في الأردن، كما لبنان، تحايل على السنوات، مرَّرها كيفما كان، فهما محطتان حافلتان بالصعاب والإصرار على مزاولة الحرفة كي لا ينساها. أمَّا كندا فهي محطة التقاط الأنفاس وتلمس بصيص الضوء في عمق النفق. عندما وصل إلى "بلد الأحلام" انتقل إلى مستوى آخر من الطموح والسعي وصل إلى حدّ التفكير في ابتكار إضافاته وبصماته على صناعة العود.

في كندا عثر على شيفرة النجاح التي نفتقدها في بلاد الشرق: العمل الجماعي. فعندما زار معملاً لصنع آلة الغيتار تنبه لاتّباع معايير ومواصفات ثابتة لا تتغير مع الزمن. حالياً، يتعاون خالد مع خبراء في التسويق، كما تعاقد مع مهندس في مجال الصوت، وأطلق علامة تجارية لأعواد جديدة باسم "طربلك" واضعاً العالمية في مرمى بصره وطموحاته، وهي أعواد بمواصفات ومعايير ثابتة وعالية الجودة. 

العوّاد خالد الحلبي في تورونتو- العربي الجديد

بينما يقلِّب بيديه نشارة الأخشاب، يتبدَّى له المزيج الرائع للألوان الناريَّة. تُدلَّل الأخشاب في كندا مثلما تدلَّل الأبقار في هولندا: كلّ خشبة مسجّل عليها العمر، والنوع، ونسبة الرطوبة، وطريقة التوضيب. يعلّق على ذلك ضاحكاً: "لم يبقَ إلا أن يقولوا لنا من قطعها". لكن، على الرغم من ذلك يقول عندما يفاضلها مع خشب الجوز: "هنا الجودة أفضل، وهناك العِرق أجمل".
أول عود صنعه في كندا أهداه لرئيس وزرائها جاستن ترودو. في بدايات لجوئه كان وزوجته يدرسان اللغة الإنكليزية، فأخبرت زوجته مديرة المعهد برغبة خالد في إهدائه لترودو. تولَّت الأخيرة التواصل مع مكتبه وأرسلت مقطع فيديو يحكي عن خالد ومسيرته بصناعة العود، فكان اللقاء بعد أسبوعين فقط. ذهب خالد مع أطفاله وزوجته، وكلّ ما فعله استعداداً للزيارة شراء ربطة عنق وتحضير الهدية. ماذا حصل في اللقاء غير التقاط الصور؟ يقول خالد: "كاشفته بحلمي في تأسيس معمل عالمي لصناعة العود في كندا، وطلبت مساعدته لتحقيق فكرة صنع مجسم لعود كبير ونصبه في إحدى ساحات تورونتو كي يتعرف الكنديون على هذه الآلة، وبإطلاق اسم عربي على أحد شوارع المدينة. حينها ابتسم ترودو، وصمت قليلاً ثم علَّق: آمل ذلك".

العوّاد خالد الحلبي في تورونتو- العربي الجديد

العود في شرقنا هو سيد التخت الموسيقي المتهادي ببطئه، وفي كندا الغيتار هو سيد التخت الغربي، فماذا سيضيف العود لكندا؟ ربما بدا الأمر مفارقة للكثيرين، لكنّه ليس كذلك لخالد الذي فوجئ باهتمام الجاليات العربية في كندا باقتناء الأعواد. زد على ذلك أنّ في المدن الكندية الأساسية مدارس لتعليم الموسيقى الشرقية، وفي تورونتو أوركسترا عربية يبحث طلابها عن مكان لشراء آلتي العود والبزق. وبينما يعتمد خالد في التسويق على وسائل التواصل الاجتماعي حصراً، بدأت أعواده منذ مدة تخرج من كندا وتصل إلى دول عدة.

ذات صلة

الصورة
من مجلس العزاء بالشهيد يحيى السنوار في إدلب (العربي الجديد)

سياسة

أقيم في بلدة أطمة بريف إدلب الشمالي وفي مدينة إدلب، شمال غربي سورية، مجلسا عزاء لرئيس حركة حماس يحيى السنوار الذي استشهد الأربعاء الماضي.
الصورة
غارات روسية على ريف إدلب شمال غرب سورية (منصة إكس)

سياسة

 قُتل مدني وأصيب 8 آخرون مساء اليوم الثلاثاء جراء قصف مدفعي من مناطق سيطرة قوات النظام السوري استهدف مدينة الأتارب الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة
الصورة
قبور الموتى للبيع في سورية / 6 فبراير 2024 (Getty)

اقتصاد

تزداد أعباء معيشة السوريين بواقع ارتفاع الأسعار الذي زاد عن 30% خلال الشهر الأخير، حتى أن بعض السوريين لجأوا لبيع قبور ذويهم المتوارثة ليدفنوا فيها.
الصورة
قوات روسية في درعا البلد، 2021 (سام حريري/فرانس برس)

سياسة

لا حلّ للأزمة السورية بعد تسع سنوات من عمر التدخل الروسي في سورية الذي بدأ في 2015، وقد تكون نقطة الضعف الأكبر لموسكو في هذا البلد.
المساهمون