تستنتج دراسة علمية بعنوان "انتشار أعراض الاكتئاب وتأثيراتها الاجتماعية والديموغرافية والسريرية على اللاجئين السوريين في لبنان"، أجراها معهد الصحة العالمية في الجامعة الأميركية ببيروت، ونشرتها مجلة "بي أم سي بابليك هيلث" الدورية العلمية، أن ربع اللاجئين السوريين في لبنان يعانون من الاكتئاب. وتشير إلى أن اللاجئين الرجال الذين يتجاوزون الـ 45 عاماً هم على غرار النساء والأرامل الأكثر تعرضاً للاكتئاب.
وشملت الدراسة 3255 بالغاً من اللاجئين السوريين الذين يعيشون في مخيمات اللجوء بمناطق بيروت والبقاع والشمال والجنوب، وامتدت بين عامي 2018 و2020. وبلغ متوسط أعمار المشاركين فيها 36.5 عاماً، ونسبتهم 67 في المائة من النساء و33 في المائة من الرجال. وأكد 1.2 في المئة من المستفتين فيها فقط أنهم يستخدمون أدوية معالجة الاضطرابات النفسية، ومضادات الاكتئاب وغيرها.
وتظهر نتائج الدراسة أن 22 في المائة من اللاجئين السوريين في لبنان معرضون للإصابة بالاكتئاب. وهذه نسبة مرتفعة مقارنة بنسبة انتشار الاكتئاب في المجتمع اللبناني (نحو 9 في المائة)، وأعلى من معدل انتشار الاكتئاب عند اللاجئين السوريين في البلدان المتقدمة مثل ألمانيا (14 في المائة). ومع تزايد الأزمات في لبنان من المرتبطة بانفجار مرفأ بيروت وانتشار وباء كورونا، وتفاقم الأزمة الاقتصادية الحادة، يتوقع أن يرتفع معدل انتشار الاكتئاب عند اللاجئين السوريين.
على صعيد آخر، تكشف دراسة دولية شملت 24051 لاجئاً من جنسيات مختلفة أن نسبة 44 في المائة منهم يعانون من الاكتئاب. في حين تتفق الدراسات عموماً على أن نسبة انتشار الاكتئاب عند اللاجئين السوريين في الدول المتقدمة أقل منها في الدول النامية بتأثير قدرة تلك المتقدمة على تلبية احتياجاتهم الأساسية في شكل أكبر.
الاكتئاب واضطرابات أخرى
يرى المدير المؤسس لمعهد الصحة العالمية في الجامعة الأميركية في بيروت والبروفسور في الأنظمة الصحية الدكتور شادي صالح، في حديثه لـ "العربي الجديد" أن "نسبة ارتفاع الاكتئاب، مردها إلى ظروف اللاجئين السوريين الصعبة في لبنان، إذ لا تتوافر فرص كثيرة لتأمين مداخيل مادية والاحتياجات الأساسية من دون دعم المنظمات الدولية والإنسانية، كما أن لا حماية لحقوقهم السياسية مقارنة بالمواطنين اللبنانيين، وحدودهم ضيقة في الحصول على خدمات الصحة النفسية، والتي تتأثر بوجود وصمة ثقافية تنبذ المشاكل النفسية وترفض سبل معالجتها. وبالتأكيد يعاني لاجئون كثيرون من التمييز في المجتمعات المضيفة لهم".
ويلفت صالح الى أن "اللاجئين السوريين في لبنان لا يصابون بالاكتئاب فقط، بل يتعرضون لاضطرابات نفسية أخرى، بينها اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، والقلق، وتعاطي المواد المدمنة، ما يرجح أن تكون معدلات الإصابة باضطرابات نفسية أخرى أعلى من معدل انتشار الاكتئاب وحده".
ويوضح صالح أن "الدراسة لم تكتفِ باعتبار أن اللاجئين السوريين في لبنان أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب من باقي فئات المجتمع عموماً، بل عالجت العوامل الإكلينيكية والديموغرافيا المرتبطة بانتشار الاكتئاب عند اللاجئين السوريين. وأظهرت الدراسة أن وجود تاريخ طويل من الاضطرابات النفسية والعصبية يشكّل عامل خطر للإصابة بالاكتئاب، وأن انتشار الاكتئاب لا يرتبط بأمراض ارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض القلب".
وتفسّر الدراسة وجود علاقة بين العمر وانتشار نسبة الاكتئاب، وذلك لاعتبارات عدة منها أن الأشخاص الذين يتجاوزون الـ45 يشكّلون أساس العائلة ويتحملون مسؤوليات إعالتها. كما تبرز وجود رابط بين النساء وارتفاع معدلات الاكتئاب باعتبار أن النساء اللاجئات في المخيمات أكثر عرضة للزواج المبكر أو الزواج بالإكراه، أو لتحمل مسؤوليات في سن مبكرة، أو مواجهة عنف أسري أو تحرش جنسي.
ويُشير صالح إلى أن الدراسة كشفت أيضاً عدم وجود رابط بين نسبة انتشار الاكتئاب وبين مدة الإقامة في لبنان، أي بين الأشخاص الذين مكثوا لفترة زمنية طويلة أو قصيرة في مخيمات، إذ تتشابه الظروف المعيشية في مخيمات اللاجئين.
في المقابل، لم تعالج الدراسة عوامل الحماية من الاكتئاب. لكن دراسات علمية مختلفة تشير الى أن معايير السكن وسبل المعاملة ونوعية الخدمات المتوافرة والحماية القانونية والجسدية تشكّل عوامل لحماية اللاجئين من الاضطرابات النفسية. وجميع هذه العوامل محدودة في لبنان، ما يعرّض اللاجئين الى ضغوطات كبيرة، علماً أن صالح يؤكد توافر عوامل حماية خاصة باللاجئين، وأخرى للحماية المشتركة بينهم وبين المجتمع العام، ومنها التعليم والمرونة والدعم الاجتماعي.
احتياجات الحياة أولاً
يلاحظ صالح أن الحصول على خدمات الصحة النفسية "مهمّ جداً لمواجهة معدل انتشار الاكتئاب عند اللاجئين السوريين، لكن لا تكفي للحدّ من نسب الانتشار المرتفعة. فخدمات الصحة النفسية غير مجدية في حال عدم توافر الاحتياجات الحياتية الأساسية، والتهديد المستمر بالطرد، وغيرها من الشروط المعيشية الصعبة".
ويوضح صالح أنه "يجب العمل لتأمين الاحتياجات الأساسية للاجئين مثل المأوى والطعام والحماية والخدمات الصحية وتلك المرتبطة بالصحة النفسية، علماً أنه يمكن توفير خدمات الصحة النفسية التي تستهدف المجتمعات على نطاق واسع، وليس الخدمات المتخصصة، وهذا ما يفعله معهد الصحة العالمية في الجامعة الأميركية ببيروت عبر برامجه الخاصة بتدريب عاملين على توفير الخدمات الأساسية للصحة النفسية، والترويج لأهمية الصحة النفسية وشروطها، وتحديد الحالات وإحالتها على متخصصين لمتابعتها. وبما أن الخدمات الصحية مكلفة، وغير متوافرة بسهولة في المناطق البعيدة التي تتواجد فيها مخيمات اللاجئين السوريين، فإن مراكز الرعاية الأولية ونشاطات جمعيات المجتمع المدني تلعب دوراً رئيساً في تدريب العاملين الصحيين وتوفير الخدمات للمحتاجين".
وتشدّد الدراسة أيضاً على أهمية إجراء المزيد من الدراسات العلمية في شأن انتشار اضطرابات نفسية أخرى مثل اضطراب ما بعد الصدمة أو القلق أو تعاطي المواد المدمنة عند اللاجئين السوريين في لبنان، من أجل زيادة الفهم العميق لمعدلات الانتشار وعوامل الخطر والحماية، وارتباطها بالظروف الحياتية والمعيشية. كما توصي بضرورة تعزيز خدمات الصحة النفسية في التشخيص والعلاج.