خلال المجزرة، عصفت آلة الحرب الإسرائيلية بمن في جامعات غزة وما فيها، ولم يحدث هذا مصادفة بل كان سياسة مقصودة، باعتبار أن التعليم إحدى ركائز صمود الشعب الفلسطيني.
يمكن الجزم بأنه في حال التوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، فإن الجامعات ومعاهد التعليم العالي لن تعاود الدراسة في المدى المنظور، فقد تستغرق العودة إلى التدريس أشهراً، وربما سنوات، لإعمار المباني والمنشآت التي تحتاج إليها العملية الأكاديمية.
لكن هناك ما لا يمكن استرجاعه، وهو عشرات الكفاءات العلمية التي قُتلَت بدماء باردة، ومن بينها علماء عالميون، وتعويضهم بحاجة إلى سنوات طويلة. فخلال المجزرة، عصفت آلة الحرب الإسرائيلية بمن في الجامعات وما فيها، ولم يحدث هذا مصادفة، بل كان بمثابة سياسة مقصودة، باعتبار أن التعليم، والعالي منه على وجه الخصوص، إحدى ركائز صمود الشعب الفلسطيني منذ تهجيره في نكبة عام 1948، لذا كان قصف المؤسسات الجامعية متعمداً، لكونه يمثل عصباً في ملحمة مواجهة الشعب الفلسطيني لحرب الإلغاء والإبادة التي لم تتوقف منذ "وعد بلفور"، وتصاعدت تباعاً.
ما إن شرعت الطائرات الحربية الإسرائيلية في بداية العدوان على غزة، بعمليات القصف، حتى تعطلت العملية التعليمية بالكامل في 19 مؤسسة تعليم عالٍ تشمل كليات ومعاهد، وحُرم أكثر من 88 ألف طالب استكمالَ تعليمهم، كذلك حُرم العاملون في هذه المؤسسات، وعددهم يقارب 5100 موظف، ممارسةَ أعمالهم.
الواقع أن القصف سرعان ما تركز على قطاع التعليم العالي، ما قاد إلى تدمير معظم المباني على نحو كلي أو جزئي، وبالتأكيد طاول التدمير محتويات المباني من مختبرات ومكتبات وقاعات وتجهيزات فنية ومواد علمية وتعليمية وغيرها.
وفي حرب الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة، صارت الأولوية للجامعيين مثلهم مثل بقية المواطنين هي المحافظة على حياتهم وحياة أفراد أسرهم، لذا غادروا شمال القطاع ووسطه، ولجأوا إلى رفح في الجنوب.
ومن خلال متابعة عمليات التدمير التي طاولت الجامعات، يتبين أن هناك سياسة متدرجة تستهدف محو القطاع التعليمي من الوجود. فمثلاً، قُصف مبنى جامعة القدس المفتوحة، ما أدى إلى تدميره، وتعرضت 4 مبانٍ تابعة للجامعة الإسلامية للتدمير الكلي، هي مباني كلية تكنولوجيا المعلومات، وكلية العلوم، وعمادة خدمة المجتمع، ومبنى كلية الطب، وتعرضت بقية مباني الجامعة لأضرار جزئية، ولم تنجُ مباني جامعة الأزهر من التدمير، وقِس على ذلك بقية كليات ومعاهد التعليم العالي في القطاع.
لقد ساق الجيش الإسرائيلي جملة تبريرات لأفعاله الإجرامية، مفادها أن تلك المؤسسات كانت مراكز للتنظيمات الفدائية، وأن العديد من مبانيها عبارة عن مخازن للأسلحة، وهو ما لم يظهر أن له مستنداً واحداً يثبته. بناءً عليه، يصبح الهدفُ حرمانَ الشعب الفلسطيني فرصةَ الارتقاء العلمي والاجتماعي من خلال التعليم العالي. لذلك، أدانت الهيئات الأكاديمية استباحة حرمة مؤسسات التعليم العالي في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، وطالبت المؤسسات الدولية، الحقوقية والإنسانية والإعلامية، واتحاد الجامعات العربية، وكل الأحرار في العالم، بتحمّل مسؤولياتهم ومُمارسة دورهم، بما يضمن لَجم مُمارسات الاحتلال الإجرامية، وتوفير الحماية للمؤسسات التعليمية.
(باحث وأكاديمي)