تبدلت مواقف البريطانيين العدائية تجاه المهاجرين، و"الغرباء" عموماً، خلال السنوات التي تلت تصويت "بريكست"، إذ اكتشف كثيرون أن اتهام المهاجرين بالمسؤولية عن مشكلات البلاد المتفاقمة محض أكاذيب.
لم يكن العداء للمهاجرين حكراً على المجتمع البريطاني، خاصة في مرحلة ما قبل الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست" في عام 2016، فالعداء للغرباء بات نزعة عالمية تشجعها أنظمة يمينية شعبوية.
في عام "بريكست" ذاته، انتخب الأميركيون دونالد ترامب بدافع "خوف غير عقلاني" تجاه الآخر، المهاجر، والمختلف، والملوّن، أو الذي ينتمي إلى الأقليات، وووفقاً لاستطلاعات الرأي الأميركية، كان الوعد الذي أطلقه ترامب ببناء جدار على حدود المكسيك هو الدافع الأهم بالنسبة لمن صوّتوا له، بمن فيهم النساء.
وتزامناً مع "بريكست" وفوز ترامب، سيطر على برلمانات دول غربية عدة، منها ألمانيا والنمسا وإيطاليا، أصحاب أفكار يمينية تميل إلى العنصرية، وقام هؤلاء بإيهام شرائح المجتمع أن المهاجرين يشكّلون التهديد الأكبر، وليست عنصرية الحكومات ضد اللاجئين، ولا عدم المساواة، أو غلاء الأسعار، أو التغير المناخي.
هذه الشعارات التي غذّتها بعض الأنظمة، لم يدرك كثيرون، إلا متأخرين، أنها مجرّد عداء للآخر، بما في ذلك السكان الأصليين، فالعنوان الشعبوي العريض كان وقف الهجرة ومنع وصول المهاجرين، لكن العناوين الأخرى كانت تضم التضييق على الأفراد، وتقييد الحريات المدنية، وزرع كاميرات المراقبة في كل مكان، وتوسيع تعريف الخطر، أو الإرهاب، وتكرار اللعب على مفردتي "نحن" و"هم".
فعل هذا تحديداً المرشح لرئاسة الوزراء في بريطانيا ريشي سوناك، قبل أيام، إرضاء للجناح الأكثر تشدّداً في حزب المحافظين، إذ توعّد بمضاعفة استراتيجية الردع التي تنتهجها الحكومة لمحاربة التطرّف، وتوسيع تعريف التطرّف ليشمل "أولئك الذين يشوّهون بلدنا". انتفض في وجه سوناك كثير من الأصوات، من بينها أصوات من اليمين والمحافظين، لأن من شأن هذا أن ينطبق عليهم.
في وقت سابق، قضى رئيس حكومة المجر، فيكتور أوربان، على الصحافة الحرة، وقيد معظم المؤسسات الليبرالية مستخدماً الخوف من الآخر الرائج في المخيلة العامة، والصورة المزيفة عن المهاجرين باعتبارهم "البعبع".
وأظهر استطلاع للرأي، أجرته شركة "يوغوف" قبل أيام من الاستفتاء على "بريكست"، أن 56 في المائة من البريطانيين يرون الهجرة واللجوء باعتبارهما "أكبر مشكلة تواجه البلاد"، ولعبت وسائل الإعلام حينها دوراً كبيراً في تكريس هذه المخاوف عبر عناوين الصفحات الأولى، من قبيل "المهاجرون يسرقون الوظائف من البريطانيين"، و"العمال المهاجرون يغرقون بريطانيا"، وصولاً إلى "الخوف من الغرباء".
وبيّنت دراسة أكاديمية أن صحيفة "ديلي إكسبرس"، كمثال، نشرت 179 موضوعاً مناهضاً للهجرة بين عامي 2010 و2016، ونشرت "دايلي ميل" 122 موضوعاً مماثلاً في الفترة ذاتها.
وبيّنت دراسات أخرى أن تصاعد الخوف من المهاجرين كان نتيجة حتمية لأكاذيب الحكومات حول أعدادهم، إذ يكرر بعض السياسيين الإيحاء بأنهم حشود، فتترسّخ لدى اليمينيين ومتوسّطي التعليم أن نسبة المهاجرين أكبر من نسبة السكان، ما يؤدي إلى خوف الأكثرية من الآخر المهاجر لأنه يحصل، وفقاً لهذا التصوّر، على مساعدات حكومية أكبر من تلك التي يحصل عليها سكان البلاد، إضافة إلى مزاحمته أهل البلد على فرص العمل والحقوق.
وتشير دراسة أعدّتها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في لندن، حول المشاعر المعادية للمهاجرين، إلى أن "المهاجرين من الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يدفعون ضرائب أكبر بكثير مما يحصلون عليه من الرعاية الاجتماعية والخدمات العامة".
وتفيد دراسة أميركية تعود إلى عام 2017 بأن أكثرية الرأي العام تعتقد أن نسبة المهاجرين هي 37 في المائة في الولايات المتحدة، بينما النسبة الحقيقية لا تتجاوز 13 في المائة، كما بيّنت دراسة أن الفرنسيين يعتقدون أن شخصاً من بين كل ثلاثة في بلادهم مسلم، بينما الأرقام الحقيقية تشير إلى أن شخصاً من بين كل 13 في فرنسا مسلم.
وفي بريطانيا، توقع مواطنون أن 22 في المائة من عدد السكّان سيكونون من المسلمين بحلول العام 2020، إلا أن الرقم الفعلي كان 6 في المائة فقط.
وإذا لجأنا إلى علم النفس للتفسير، فسنجد أن الخوف من الغرباء أحد أقدم الميول النفسية للبشر، وأن كثيرا من الحكومات استغلت "رهاب الأجانب" لتورّط ناخبيها في أفكار شعبوية يمينية متطرفة، وكمثال، فإن الحكومات البريطانية المتعاقبة قامت، حسب الدراسات، بتعزيز التهديد المتخيّل الذي يمثّله مجتمع اللاجئين والمهاجرين.
المفاجأة في الحالة البريطانية أن دراسات حديثة أظهرت أن المواقف المعادية للمهاجرين تراجعت بعد الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إذ انخفض حديث الناخبين عن الهجرة من 48 في المائة في يونيو/ حزيران 2016، إلى 13 في المائة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
وإن لم تكن نسبة التراجع واضحة في البداية، لكنها حالياً أكثر وضوحاً خلال السباق الذي تخوضه وزيرة الخارجية ليز تراس، مع منافسها وزير المالية المستقيل ريشي سوناك، على زعامة حزب المحافظين والحكومة، إذ تبيّن استطلاعات الرأي أن المرشّحين يخاطران عبر تشدّدهما في عدة ملفات، من أبرزها ملف الهجرة، بحظوظ حزبهما في الفوز بالانتخابات العامة المقبلة المقررة في عام 2024.
وتؤكّد دراسات واستطلاعات رأي أن المخاوف من الهجرة تراجعت في مقابل تصاعد الضيق من انحراف مركز الحزب الحاكم إلى اليمين. كل هذا وسط أزمة اقتصادية غير مسبوقة تثقل كاهل ملايين البريطانيين، ففي حين كانت مسألة الهجرة حاسمة في استفتاء "بريكست"، باتت المخاوف المعيشية هي الأهم، إلى جانب تردّي النظام الصحي، والآثار الاقتصادية التي سبّبها "بريكست"، ومن بعدها جائحة كوفيد-19، ثم الأزمة العالمية الناتجة عن الغزو الروسي لأوكرانيا.
وعند البحث عن أسباب انخفاض المخاوف من المهاجرين بعد "بريكست"، تظهر كثير من الإجابات البسيطة، والعميقة، فهناك من يرى أن المؤيدين شعروا بشكل تدريجي بسيطرة أكبر على القوانين والأموال، ما دفعهم إلى تنحية القلق من الآخر جانباً، والانشغال بمخاوف أخرى تهدّدهم.
بينما يشير البعض إلى أن جائحة كورونا جلبت معها تدابير ضاعفت العزلة التي فرضها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإغلاق الحدود كان خوفاً من فيروس، وليس من المهاجرين، وتجربة العزلة الإجبارية التي امتدت لنحو سنتين كانت أسوأ ما يمكن لملايين البريطانيين تخيّله.
ويعتقد كثيرون أن ادّعاءات الحكومة البريطانية وكذلك المرشّحين لزعامة الحزب الحاكم، حول كون الركود، والتضخّم، والافتقار للمواد الغذائية، وغلاء الأسعار، وتردي الخدمات العامة، بما فيها الصحة، لا علاقة لها بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، باتت واهية، وغير قابلة للتصديق.
وتشير استطلاعات الرأي الخاصة بملف "بريكست" إلى أن الناخبين الذين أيّدوا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حتى وإن لم يفصحوا عن تراجعهم علناً، إلا أنهم يعبّرون صراحة عن مطالبهم بمعايير أعلى للأغذية، والسلع، وحقوق العمال، كما يطالبون بدخول مزيد من الأشخاص من الاتحاد الأوروبي لسدّ الفجوة القائمة في قطاعات كثيرة.
تقول الباحثة في شركة "يوغوف" لاستطلاع الرأي في بريطانيا بيث مان، لـ"العربي الجديد": "نستطلع أسبوعياً أهم القضايا التي تهمّ الشارع. الاقتصاد كان على رأس الأولويات طوال الوقت، ثم الصحة والبيئة، أما الهجرة فتحتل حالياً المركز الثالث، أو الرابع. الشركة تقوم بهذا الاستطلاع الروتيني منذ عام 2011، وفي حين كان الاقتصاد والهجرة هما القضيتان الأهم سابقاً، تراجع ملف الهجرة بعد عام 2016، (أي بعد بريكست) بشكل تدريجي".
وعن خطة رواندا المثيرة للجدل (لترحيل المهاجرين من بريطانيا إليها)، تقول بيث مان: "مع أن استطلاعات الرأي الخاصة بالهجرة كانت تكشف عن أعداد متساوية بين من يرى أن نسبة المهاجرين القادمين خانقة، ومن يرى أنها نسبة طفيفة، إلا أن الواضح في البيانات الحديثة أن الأكثرية تعارض خطة الحكومة لترحيل المهاجرين إلى رواندا، والنسبة 27 في المائة مقابل 20 في المائة يوافقون، بينما بلغت نسبة الذين لا يمتلكون إجابة 23 في المائة".
وحول استطلاعات الرأي الخاصة بسباق رئاسة الحكومة، تقول: "رؤية المرشّحَين اليمينية المحافظة تختلف تماماً عن رؤية الناخبين، فهما يناشدان أصوات مجموعة صغيرة لا تعكس الشريحة الأعرض من الناخبين، وتخفيض ضريبة الشركات التي اقترحتها ليز تراس، على سبيل المثال، تحظى بدعم أكبر بين أعضاء الحزب".
يبقى أن مخاوف الحكومة من ملف الهجرة لم تتراجع، بل إن السباق على زعامة الحزب الحاكم يدور حول تلك المخاوف بشكل أساسي، ما يعكس، إلى جانب ملفات أخرى، الفجوة الكبيرة بين الحكومة والشارع، إذ يغيب التغيّر المناخي الذي يشغل العالم عن الحملتين الانتخابيتين، كما تتراجع ملفات تردّي القطاع الصحي، وتردي الخدمات العامة، وأزمة المعيشة الخانقة.