يدخل الصراع في اليمن عامه الثامن، لتتفاقم أكثر فأكثر معاناة اليمنيين الذين يعيشون أسوأ أزمة إنسانية في العالم بحسب الأمم المتحدة. وعشيّة الذكرى السابعة لانطلاق الحرب في 26 مارس/ آذار 2015، التقت "العربي الجديد" في نيويورك المدير القُطري لبرنامج الأغذية العالمي في اليمن، ريتشارد راغان، الذي استعرض الوضع المأزوم.
يشير تقرير أخير صادر عن الأمم المتحدة إلى أنّ أكثر من نصف اليمنيين (17 مليوناً حالياً و19 مليوناً بحلول نهاية عام 2022) يعانون من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي، فيما يعيش عشرات الآلاف ظروفاً تشبه المجاعة، ومن المتوقّع أن يزداد العدد. ولم يحصل صندوق الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية الخاصة باليمن هذا العام إلا على نحو ربع ما يحتاجه من تمويل، معظمه من دول غربية. وما يزيد الطين بلّة أنّ الأغلبية الساحقة من الحكومات العربية الغنية لم تتعهّد بتقديم أيّ مساعدات لذلك الصندوق هذا العام، تاركة اليمنيين يواجهون وحدهم الحرب والجوع.
- في مؤتمر المانحين الذي نظّمته الأمم المتحدة أخيراً طلبت نحو 4.3 مليارات دولار أميركي لتغطية عملياتها الإنسانية مع شركائها باليمن في خلال عام 2022. لكنّها لم تحصل (حتى الآن) إلا على تعهدات بـ 1.3 مليار دولار، أي ربع الحاجة تقريباً. وأنتم في برنامج الأغذية العالمي وحده تحتاجون إلى أكثر من مليارَي دولار هذا العام لتقديم الغذاء لملايين اليمينيين، بالتالي ماذا يعني هذا النقص الحاد في التمويل في ما يتعلّق بعملياتكم وباليمنيين؟
+ دعيني أقول أوّلاً إنّنا سعداء لأنّ المانحين وقفوا إلى جانبنا وتعهّدوا بدفع تلك المبالغ. وأظنّ أنّ النزاع في أوكرانيا (الاحتياجات هناك) ترك أثره كذلك. نشعر بخيبة أمل لأنّنا لم نحصل على تعهّدات بمبالغ أكبر، بالتحديد لأنّنا لم نرَ التزامات من قبل دول الخليج، علماً أنّ النزاع في فنائها الخلفي. أحياناً، يأتي بعض التعهدات في وقت لاحق... سوف نرى. لكنّنا عموماً، يمكننا القول إنّ المتوفّر يبقينا على قيد الحياة حالياً. لقد خفّضنا برامجنا بشكل كبير ونُنفق نصف ما ننفقه عادةً، وهو 200 مليون دولار شهرياً للمساعدات الغذائية. واليوم نُنفق 100 مليون دولار شهرياً ونقدّم حصصاً غذائية كاملة لخمسة ملايين شخص ومخفّضة (جزئية) لثمانية ملايين شخص. ويمكننا الحفاظ على ذلك حتى شهر مايو/ أيار المقبل على الأغلب.
- وهل يمكن وضع ذلك في السياق الأوسع المتعلق باحتياجات اليمنيين؟
+ يحتاج اليمن إلى نحو أربعة ملايين طنّ من الحبوب سنوياً، منها أكثر من 800 ألف طنّ من روسيا ونحو 700 ألف طنّ من أوكرانيا. ويسعى برنامج الأغذية العالمي إلى جلب نحو مليون طنّ، بعضها من دول مثل الولايات المتحدة الأميركية، لكنّنا نشتري كذلك جزءاً من السوق. لذا سنقوم كذلك بسحب بعض مشترياتنا من هذا المخزون المحتمل الذي قد يأتي من روسيا وأوكرانيا. إذاً، هذا يعني أن الصراع له بالفعل تأثير فوري على إمداداتنا.
من جهة ثانية، نلاحظ تأثير (الحرب الأوكرانية) على الأسعار عموماً، وبالتالي على تكلفة التشغيل. بحسب تقديراتنا، سوف ننفق 120 مليون دولار إضافي بحلول نهاية العام، فقط بسبب زيادة أسعار الوقود وتكلفة التشغيل. وهذه مشكلة كبيرة إضافية بالنسبة إلينا. وكمثال بسيط، لدينا عقد مع ناقلة كنّا نستخدمها في الأعوام الماضية وتتحرّك ذهاباً وإياباً ما بين الحُديدة (غربي اليمن) وجدّة (غربي السعودية)، وعندما أبرمنا العقد مع الشركة للمرّة الأولى قبل سنوات كانت التكلفة سبعة آلاف دولار في اليوم أمّا الآن فهم يريدون نحو 50 ألف دولار في اليوم. في البداية، عندما رأيت ذلك ظننت أنّ ثمّة تلاعباً بالسوق واستغلالاً للوضع والصراع في أوكرانيا... لكنّ الأمر لم يكن كذلك. ونحن نشحن الكثير إلى كلّ الأمكنة ولاحظنا أنّ هذا كان سعراً تنافسياً حول العالم. وأظنّ أنّ تكاليف الشحن حالياً وصلت إلى درجات قصوى.
- لقد أصدرتم قبل أيام "تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي" حول اليمن. الصورة تبدو قاتمة، فهل يمكنك أن تحدّثنا عنه؟
+ دعيني أوّلاً أتطرّق وباختصار للمنهجية المعتمدة. هذا ثامن تقرير نصدره منذ بدء الصراع. ولعله التقرير الأكثر شمولاً الذي أنجزناه، إذ استمرّت الدراسة لستّة أشهر وشارك فيها عدد من المنظمات المحلية غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة مثل منظمة الأغذية والزراعة (فاو) ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) وبرنامج الأغذية العالمي وغيرها. وقد تعمّقت "يونيسف" في بحثها في قضايا كثيرة متعلقة بسوء التغذية، وهذا أمر مهمّ لأنّ فجوة كبيرة كانت تُسجّل في الماضي في هذا السياق. كذلك تمكّنّا من تغطية 323 مديرية يمنية من أصل 333 تقريباً في كلّ أنحاء البلاد، ولم نتمكّن من الوصول إلى 10 مديريات بسبب الصراع. وقد شملت الدراسة نحو 100 ألف مقابلة (منزل أو عائلة) معمّقة تتعلق بالتقييمات الغذائية.
الاستنتاج الأوّلي هو أنّ الأمور تزداد سوءاً، لكنّ التقرير أظهر لنا كذلك أنّه في إمكاننا، من خلال الاستثمارات الصحيحة، تغيير الوضع. وما لاحظناه هو أنّ انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية الحاد ازدادا في اليمن في عام 2022، وحالياً يحتاج أكثر من 17 مليون شخص إلى مساعدات غذائية، مقارنة بـ 16 مليوناً في نهاية العام الماضي. ونتوقّع أن يرتفع العدد لـ 19 مليون يمني يعانون من نقص الأمن الغذائي بدءاً من يوليو/ تموز 2022 حتى نهاية العام، علماً أنّهم في المرحلة الثالثة فما فوق من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي. (المرحلة الثالثة هي المرحلة الخطيرة مع أزمة حادة غذائية ومعيشية، والمرحلة الرابعة هي مرحلة حرجة، والمرحلة الخامسة مرحلة حرجة جداً/ كارثة إنسانية). لكنّ مصدر القلق الكبير هو هؤلاء الذين هم في المرحلة الرابعة والخامسة. حالياً، ثمّة 31 ألف شخص في المرحلة الخامسة. ونعتقد أنّه في إمكاننا الاستمرار وتقديم المساعدات لهم، لكن ما يقلقنا هو التوسّع الجغرافي. وهذه إشارة سيئة بالنسبة إلينا، لأنّها تُظهر أنّ الناس في المناطق التي كانت مستقرّة صاروا أقلّ استقراراً، وأنّ للصراع تأثيراً أوسع. وفي العام الماضي كانوا في 11 مقاطعة، أمّا اليوم ففي 23 مقاطعة. وعندنا مشكلة حقيقية في النصف الثاني من العام، إذ نتوقّع أن يصل عدد هؤلاء إلى أكثر من 160 ألف شخص في المرحلة الخامسة (يواجهون ظروفا شبيهة بالمجاعة أو كارثة إنسانية). ويمكن القول إنّه لو حصلنا ربّما على المساعدات اللازمة من مؤتمر المانحين سوف نكون على ثقة بأنه سوف تكون مساعدات أكبر على الطريق في الأشهر الستة المقبلة. ولكنّنا لا نشعر بثقة أنّ هذا سوف يحدث، لأسباب عديدة من بينها أنّ انتباه العالم يتحوّل عن اليمن بعد سبعة أعوام من الصراع، كذلك فإنّ ثمّة حالات طوارئ في مناطق أخرى من بينها أفغانستان وأوكرانيا وغيرهما. وهذا يجعلنا أكثر قلقاً.
- وما هي الأسباب وراء الارتفاع في الأعداد كما في عمق تلك الحاجة؟
+ كلّها أسباب نعرفها. الاقتصاد في حالة حرجة كما تضاعفت تكلفة السلّة الغذائية مقارنة بالعام الماضي وانخفضت قيمة العملة في الجنوب، وهذا له تأثير كبير على نسبة عالية من السكان، والحصار الذي تفرضه دول التحالف في الشمال على الوقود تظهر نتائجه بطرق مختلفة. ويترك ذلك أثره على أسعار الوقود العادية، وكذلك على أسعار السلع والأدوية وحياة اليمنيين اليومية، بما فيها عدم قدرتهم مثلاً على الحصول على الرعاية الصحية اللازمة لأنّ المستشفيات لا تملك الوقود الكافي لتشغيل المولدات الكهربائية. كذلك يؤدّي إلى ارتفاع أسعار تكلفة النقل. فالوقود ضروري لنقل كلّ تلك الحاجيات وكذلك لتنقّل عاملينا. وأظنّ أنّنا أكبر مستخدم لشبكة النقل في البلاد. وهؤلاء الذين يقومون بعمليات النقل يخبروننا مثلاً بأنّ الوقود نفد، وبأنّ شحنات العمل التي نتعاقد عليها سوف تصل متأخّرة ما بين أربعة وسبعة أيام، لأنّهم لا يملكون الوقود للوصول إلى هناك في الوقت الملائم، أو لأنّ عليهم الانتظار في الطابور لفترة طويلة للحصول على الوقود. وفي بعض الحالات، في المناطق البعيدة، يقولون إنّه لا يمكنهم توصيلها. هذا هو التحدّي من جهة النقل.
طواحين القمح ربما بوضع أفضل، إذ كان من الممكن إدخال الوقود. لكنّه في حال استمرار حصار التحالف العربي، فإنّهم سوف يواجهون مشكلات أيضاً. وفيما يخصّ الوقود، نرى نقصاً حاداً في الإمدادات في الشمال، وحصار التحالف للشاحنات التي تصل إلى الحُديدة، وفي الجنوب عدم قدرة سلسلة التوريد على دفع الوقود إلى شبكة محطات الضخّ. فثمّة سفن في ميناء عدن (جنوبي اليمن) لكنّها غير قادرة على تفريغ الوقود بسرعة كافية وإخراجه. لذلك، ثمّة نوع من الاختناق العام يحدث في الجنوب. في الوقت ذاته، بدأنا نرى شاحنات الوقود تتحرّك من الجنوب إلى الشمال ولا ندري مدى نجاح ذلك. ونأمل أن يؤدّي ذلك في نهاية المطاف إلى توفّر الوقود في مستودعات وقود شركة النفط اليمنية.
- بالإضافة إلى الأرقام التي تطرّقنا إليها، يشير التقرير إلى أنّ نحو 2.2 مليون طفل دون الخامسة، من بينهم أكثر من نصف مليون طفل يمني، يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم، كذلك من المتوقّع أن تعاني 1.3 مليون امرأة حامل ومرضعة من سوء التغذية الحاد في العام الجاري، وثمّة أرقام أخرى مرعبة. ما الذي تعنيه هذه الأرقام بالنسبة إلى حياة اليمنيين ومستقبل البلاد؟
+ هذا يعني أنّه لن تكون ممكنة معالجة أوضاع صحية عادية بسبب عدم توفّر الخدمات الطبية أو عدم قدرة الأهل على الوصول إلي مكان ما لتلقّي العلاج أو عدم مقدرة الطفل على الصمود بسبب سوء التغذية الحاد وغيرها، والنتيجة الوفاة. وهذا واقع شهدته في واحدة من الحالات. لقد عملت في سبع مناطق مختلفة حول العالم في مجال العمل الإنساني ولم أرَ غضباً وإحباطاً في ما يتعلق بعدم قدرة الناس على الحصول على المساعدة مثلما رأيت باليمن. لأنّهم (اليمنيون) ببساطة غير قادرين على الحصول على الدعم. نحن نطعم أكثر من نصف سكان اليمن وهذا أكبر برنامج مساعدات غذائية نديره في العالم. والآن لا تتوفّر لدينا الموارد للاستمرار. وإذا لم نحصل على مزيد من الدعم المادي بالإضافة إلى ما تمّ التعهّد به في مؤتمر المانحين، فإنّ عدد الذين يواجهون خطر المجاعة سوف يتخطّى توقّعاتنا ويفوق رقم 160 ألف شخص في المرحلة الخامسة (مجاعة/ كارثة إنسانية).
- هل ترغب في إضافة شيء أو تأكيده؟
+ هذه الأزمة تحدث في الفناء الخلفي للمنطقة العربية وتتطلّب حلاً. المساعدات الإنسانية (من خلال الدعم المادي) جزء من الحل، وهي عنصر يمكن تحقيقه الآن. نحن نعلم أنّه في إمكاننا تغيير بعض هذه الأرقام التي تحدّثنا عنها. نحن نعلم أنّه في إمكاننا إنقاذ الأرواح. نحن نعلم أنّه في إمكاننا وقف انزلاق الأجيال إلى الأزمات، إذا توفّر لدينا الدعم الإنساني على المدى القصير، في الوقت الذي تتمّ فيه مناقشة السلام والمصالحة.
من هو ريتشارد راغان؟
يُعَدّ ريتشارد راغان من كبار موظفي الأمم المتحدة ويشغل حالياً منصب ممثّل برنامج الأغذية العالمي في اليمن، وقد تبوّأ في السابق عدداً من المناصب المرموقة في الحكومة الأميركية، من بينها مدير مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، ونائب مساعد المدير في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية.
وفي الأمم المتحدة، كان في عدد من المراكز رفيعة المستوى، إذ أسّس مكتب ليبريا بصفته القائم بأعمال مساعد الأمين العام للمنظمة الأممية، وأدار العمليات كجزء من بعثة الاستجابة العاجلة لأزمة إيبولا، وشغل منصب ممثل برنامج الأغذية العالمي في كلّ من بنغلادش وتنزانيا ونيبال وكوريا الشمالية وزامبيا، وعمل في حالات طوارئ معقّدة في تيمور الشرقية وكوسوفو والصين، وأعاد افتتاح مكتب برنامج الأغذية العالمي في ليبيا في عام 2018.