يلعب برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة دوراً محورياً في مختلف مناطق النزاع، من خلال تقديم المساعدات الغذائية التي تكون أحياناً المصدر الوحيد لضمان بقاء المحتاجين على قيد الحياة. ومن بين هذه المناطق ميانمار، التي استولى الجيش على الحكم فيها، بعد انقلاب عسكري، بداية فبراير/شباط الماضي. وللاطلاع على دور البرنامج في ميانمار، وواقع الحال في البلاد، قابلت "العربي الجديد" المدير القُطري لبرنامج الأغذية العالمي في ميانمار، ستيفن أندرسون، خلال زيارته الولايات المتحدة
* يشير تقرير أخير صادر عن برنامج الأغذية العالمي إلى تدهور الأوضاع الإنسانية بعد الانقلاب العسكري، بداية فبراير/شباط الماضي. كيف تصف الوضع في البلاد في الوقت الحالي والتحديات التي تواجه عملكم، وحجم الاحتياجات؟
- للأسف الشديد، كانت ميانمار تواجه عدداً من التحديات حتى ما قبل الانقلاب (العسكري). أحد هذه التحديات هو تفشي فيروس كورونا على نطاق كبير في البلاد. وتشير بعض التقديرات إلى أن نحو ثمانين في المائة من الناس خسروا نحو خمسين في المائة من دخلهم أو دخل العائلة. وبعد الانقلاب، لاحظنا انكماشاً اقتصادياً نتيجة الإضرابات وأزمات المصارف، وقد أوقفت الكثير من الشركات استثماراتها، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار الغذاء بشكل ملحوظ. على سبيل المثال، ارتفعت أسعار الأرز بنسبة عشرين في المائة، بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. أما الزيت، فارتفع سعره بنسبة خمسين في المائة. لاحظنا أنّ الناس في المدن تأثروا سلباً وعلى نطاق أوسع، مقارنة بالمناطق الريفية. ويعود ذلك إلى أسباب عدة، منها الاعتماد على العمالة لتأمين الدخل، وبالتالي شراء الغذاء.
وفي ظل الأوضاع الحالية، قلّت فرص العمل، وانخفضت التحويلات (من العائلات أو الأقارب في الخارج) في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار الغذاء. نشعر بالقلق على الفقراء في المدن، حيث يُدفعون نحو الجوع، بالإضافة إلى الناس المتأثرين بالقتال المستمر بين جماعات إثنية مسلحة وجماعات معارضة والجيش. وتشير التقديرات إلى وجود نحو 200 ألف نازح جديد، والوصول إليهم صعب.
*بعثة الأمم المتحدة لميانمار كان لديها مئات العاملين حتى في فترة ما قبل الانقلاب. هل أنتم قادرون على الوصول إلى كلّ الأماكن؟ وماذا عن التمويل والصعوبات في ظلّ الانقلاب؟
- صحيح، لبعثة الأمم المتحدة حضور كبير في ميانمار، ليس بحجم حضورها في اليمن، لكنّه كبير. ويجب لفت الانتباه إلى أنّ ميانمار عانت من صراعات عديدة. يوجد أكثر من 135 مجموعة إثنية. وكانت هناك صراعات في ما بينها وبين الحكومة المركزية والغالبية الإثنية في البلد. طبعاً، تعرضت أقلية الروهينغا للاضطهاد، وفر مئات الآلاف منهم عام 2017 إلى بنغلادش، حيث ما زالوا يعيشون كلاجئين. وبقي نحو 600 ألف منهم في ميانمار. ويقدم برنامج الأغذية العالمي المساعدات لنحو ثلث هؤلاء، علماً أن البعض يعيش في المخيمات والبعض الآخر يواجه قيوداً على الحركة. والدعم الذي نقدمه عبارة عن مساعدات إغاثية عادية، في إطار برامج تدعم تقديم وجبات غذائية للتلاميذ ودعم استمرار ذهابهم إلى المدارس. وحصل نحو مليون شخص على مساعدات غذائية خلال العام الماضي، ولدينا حالياً نحو 250 عاملاً في ميانمار. ومع زيادة الحاجة، نتوقع أن يرتفع عدد العاملين إلى 300.
في الوقت نفسه، نسعى إلى زيادة حجم المساعدات الغذائية ثلاثة أضعاف، للوصول إلى نحو ثلاثة ملايين شخص، على أن نقدم ثلثي المساعدات في المدن والثلث الأخير في المناطق الريفية وتلك المتأثرة بالنزاعات. وسنحتاج خلال الأشهر الستة المقبلة إلى 87 مليون دولار. لكن، حتى اللحظة لم نحصل على الأموال اللازمة لذلك. لعلّ السبب هو أنّ الاحتياجات والصراعات حول العالم ازدادت في مناطق كغزة واليمن وجنوب السودان وليبيا وسورية والقائمة طويلة للأسف. لكن، على الرغم من إدراكي لذلك، فإنّ الحاجة في ميانمار كبيرة والمساعدات الغذائية مهمة من أجل الحفاظ على الاستقرار ومساعدة الناس الأشد حاجة لمواجهة الأوضاع المأساوية.
وفي ما يتعلّق بالقدرة على تقديم المساعدات لجميع المحتاجين والوصول إلى الأماكن التي يصعب الوصول إليها أحياناً لأسباب مختلفة منها الاقتتال، نواجه تحديات عدة. إلّا أنّنا تمكّنا من الوصول إلى عدد من المناطق ومساعدة المحتاجين، على الرغم من الأحكام العرفية المفروضة في بعضها. لكن، تواجهنا تحديات في الوصول إلى آخرين يعيشون في مناطق شهدت اقتتالاً مؤخراً. ونعمل على تأمين ذلك حالياً، إلّا أنّ هذا أمر حساس، ويحتاج ذلك إلى التفاوض للسماح بدخولنا، أو دبلوماسية صامتة من أجل الوصول للناس في تلك المناطق. وفي عملنا عموماً، نحاول الابتعاد عن السياسة، وهذا ينطبق على أيّ مكان نعمل فيه.
* كيف أثرت جائحة كورونا في عملكم؟
- شهدت البلاد تفشياً كبيراً لفيروس كورونا في أغسطس/آب 2020، خصوصاً في بعض المناطق. على الرغم من ذلك، استمرّ عملنا. والآن، نلاحظ ارتفاعاً جديداً في حالات الإصابة وهو الأكبر منذ فبراير/شباط الماضي، في ظلّ ارتفاعها في الدول المجاورة، كالهند وبنغلادش. وفي ميانمار، نواجه نظاماً صحياً على وشك الانهيار، كما أنّ الكثير من الأطباء مضربون عن العمل، وهذا تحدٍّ كبير. وتحاول الأمم المتحدة إدخال اللقاح لتطعيم العاملين في المجال الإنساني والعاملين في المنظمات الإنسانية الشريكة.
وكما حدث العام الماضي، قد نضطر إلى إنشاء برامج خاصة لدعم هؤلاء المتواجدين في مراكز العلاج والحجر وتقديم المساعدات الغذائية لهم. وقد قدمنا مساعدات لوقت محدد لمجموعات معينة كالمهاجرين الذين عادوا من الخارج، خصوصاً من تايلاند، خلال الموجة الأولى من انتشار الفيروس العام الماضي. ولدينا الخبرة الآن والمقدرة على العمل تحت هذه الظروف من خلال التناوب أو عن بعد، من أجل خفض احتمالات الإصابة.
*قبل عملك كمدير قُطري لبرنامج الأغذية العالمي في ميانمار عملت في اليمن لسنوات عدة. ما هو الاختلاف بين التجربتين؟
- هناك اختلافات في الظروف وحجم الحاجة، وهذا لا يلغي التشابه. في ميانمار اليوم أكثر من سلطة على الأرض، ونحتاج إلى التعامل مع السلطات المختلفة بحسب المنطقة التي نقدم فيها المساعدات. لكنّ التحديات في اليمن كانت أكبر والاحتياجات الإنسانية أعظم، بل أصبحت أكثر تعقيداً بمرور الوقت، وقد ازداد عدد الذين يعيشون على حافة المجاعة بشكل كبير. صحيح أنّ الأمور في ميانمار تتدهور، لكن لا يمكن القول إنّنا وصلنا إلى حافة المجاعة. من دون شك، إن لم نتمكن من تقديم المساعدات، فإنّ الوضع سيتدهور أكثر، لكن تبقى الظروف مختلفة.
في اليمن، مع الأسف، تتحكم أطراف عدة في عملنا، عدا الضغوط السياسية. كنا متمركزين في صنعاء ولهذا حسناته، ولكن التحديات كبيرة أيضاً. وعندما تركت منصبي (قبل نحو عام ونصف العام)، كنا نقدم المساعدات الغذائية لنحو 12 مليون يمني، وهذا رقم مخيف. وعلى الرغم من حصولنا على تمويل كبير في اليمن، فالحاجة ما زالت أكبر. لكن دائماً ما نواجه صعوبة في التمويل.
في المقابل، وعلى الرغم من تعقيدات الوضع السياسي في اليمن، إلّا أنّ مجلس الأمن متفق بشكل أو بآخر على قراءة ما يحدث، إلّا أنّه منقسم على نفسه في ما يخص ميانمار (روسيا والصين تدعمان الجيش). كما أنّ اليمن مدرج على أجندة مجلس الأمن الشهرية، ما يعني أنّه تحت الضوء بشكل أكبر. لكن على الرغم من كلّ ما سبق، فإنّ التوافق في مجلس الأمن حول اليمن لم يترجم إلى حلّ على الأرض حتى الآن وهذا ما أقوله لكثيرين. في نهاية المطاف، يجب أن يأتي الحل من الداخل.
*يُقدّم البرنامج المساعدات الإنسانية للشريحة الأكثر حاجة غالباً. لكنّ خلال الصراعات، تكون الاحتياجات على الأرض أكبر مما يمكن أن تقدمه المنظمات الإنسانية، بما فيها منظمات الأمم المتحدة. وكثيراً ما تُنتقد الأمم المتحدة والمنظمات العاملة في المجال الإنساني بسبب الكلفة الباهظة، والتي قد تصل إلى المليارات، كما هي الحال في اليمن. ما هو تفسيرك؟
- علينا أن نحكم على كلّ عملية بشكل منفصل بدلاً من التعميم. قد يبدو ما نقوم به بسيطاً، لكن علينا خلال عملياتنا أولاً تحديد أولئك الذين هم في أمس الحاجة للمساعدات، بالتعاون مع شركائنا، ثم نحاول تحديد الأولويات والكثير من الخطوات الإضافية. وفي ما يخص الكلفة، فإذا نظرنا على سبيل المثال، إلى حزمات المساعدة الأساسية التي قدمتها بعض الدول، بما فيها دول نامية، لمواطنيها من أجل الحفاظ على شبكة أمان اجتماعية واقتصادية لهؤلاء الذين فقدوا عملهم أو لم يستطيعوا العمل وما إلى ذلك، فإن الكلفة أضخم بكثير. أثير موضوع الكلفة في اليمن أكثر من ميانمار ربما بسبب حجم الحاجة هناك. طبعاً، أفضل مساعدة يمكن تقديمها هي عندما تكون هناك برامج حكومية أو برامج أخرى. ما نحتاجه في نهاية المطاف هو حلول سياسية لتلك الصراعات. العاملون في المجال الإنساني يحاولون الحيلولة دون انهيار الوضع، ويجب أن يكون الاستثمار في عمليات السلام والحوار. وعندما يتوقف الحوار ويلجأ الناس إلى أسلحتهم، فإنّ تبعات ذلك وخيمة وتستمر في بعض الأحيان لأجيال.
*حصل برنامج الأغذية العالمي على جائزة نوبل للسلام عام 2020 بسبب جهوده. كيف انعكس ذلك على عملكم؟ وماذا تقول عن جهودك في هذا المجال بعد كلّ هذه السنوات؟
- على الرغم مما تتناقله وسائل الإعلام عن اليمن والاقتتال والتحديات، فقد أحببت دفء وكرم أهل اليمن، وهذا ما أشعر به عموماً في ميانمار. نأمل أن يساعد حصولنا على جائزة نوبل في تسليط الضوء على الحاجة الماسة لحلول سياسية. وسنعمل كلّ ما بوسعنا لدعم هؤلاء الذين يُدْفعون إلى الحافة بسبب الصراعات السياسية غالباً، والتي يمكن إيجاد حلول لها. وندرك أنّ جزءاً من الحل هو مساعدة الناس على الأرض وخلق مجتمعات مستقرة وصامدة.