يدفع الشوق والحنين إلى الحارات الدمشقية القديمة سليمان جمعة الذي وُلد في العاصمة ويبلغ الـ47 من العمر، ويعيش حالياً في مدينة إعزاز بريف حلب الشمالي بعدما نزح من الغوطة الشرقية، إلى تجسيد مجسّمات كرتونية مصغرة للبيوت الدمشقية العريقة التي ترمز إلى التراث الشعبي لأبناء سورية عامة والعاصمة دمشق خاصة. والحقيقة أن هذه البيوت تشكل الحياة كلها لأشخاص كثيرين عاشوا في كنفها، وعرفوا دفء مشاعر غرفها الواسعة والمتعددة، وساحاتها المليئة بأجمل المزروعات وأشجار النارنج والياسمين التي يملأ عطرها المكان، وقد تتوسط بعضها أحياناً بحرة داخلها شلال من الماء العذب.
يقول جمعة لـ"العربي الجديد": "فكرت بعد سنوات من التهجير باسترجاع هذه الذكريات والشوق للبيئة التي وُلدت فيها وبت حالياً بعيداً مسافات طويلة عنها لكنها لا تزال محفورة في قلبي. وكان هدفي الرئيسي أن أعيد إحياء حضارة وتراث وثقافة دمشق كي تبقى في الأذهان، وتعرفها الأجيال المقبلة، فصنعت مجسّمات لبيوت دمشقية مع الاهتمام بنقل كل تفاصيلها". يتابع: "أثرّ عملي السابق في ترميم البيوت القديمة والمعالم الأثرية بدمشق على إنجاز المجسّمات، فأنا أدرك وأفهم أهمية كل حجر في البيوت. وقبل الثورة السورية، شاركت في ترميم أماكن أثرّية مهمة عدة، مثل قصر العظم ومتحف الخط العربي ومتحف الطب والعلوم والمكتبة الظاهرية والمدرسة العادلية".
ويشرح أنه استعمل في مجسّماته الورق والكرتون ومواد لاصقة صنعها بنفسه من الطحين والسكر، بسبب ضيق الحال وقلة المواد والأدوات اللازمة لصنع المجسّمات، كما استعمل الفلين والخشب في مجسّمات أخرى، ويوضح أنه لم يستعمل الألوان في البداية، واستبدلها بكرتون ملوّن وعلب بسكويت وأشياء اخرى، ثم طوّر الألوان وأدخل الإنارة، وأضاف الأعشاب والمزروعات الطبيعية بعد تجفيفها وإعدادها كي تظهر المجسّمات طبيعية بأقصى حدّ ممكن. ويشير إلى أن حجم أكبر مجسم بطول 50 سنتيمتراً وعرض 70 سنتيمتراً، والأصغر بطول 30 سنتيمتراً وبنفس العرض، وأن إنجاز كل مجسّم يحتاج ما بين خمسة وستة أشهر.
ويبدي جمعة اعتزازه بأن مجسّماته اعتبرت الحرفة الأولى من نوعها في المعارض التي شارك فيها في الشمال السوري الخاضع لسيطرة المعارضة، ويقول: "مثلّت دمشق في أحد المعارض، وشاركت بأربع مجسّمات شرحت تفاصيل إنجازها للزوار، وما تحمله من قصص ومعانٍ وذكريات، كما تبادلت معهم الأحاديث عن إمكانية توسيع وتطوير المجسّمات لتشمل أهم المعالم الأثرية والحضارية في سورية". يضيف: "شاركت أيضاً بمعرض عنبر المجتمعي في عفرين، ومعرض التراث والثقافة الذي نظمته المجالس المحلية، كما دُعيت للمشاركة في معرض بمدينتي إدلب وإعزاز، لكنني لم أحضرها بسبب ظروف خاصة".
ويأمل جمعة في تطوير مشروع المجسّمات وتوسيع ورشته وتنفيذ مشاريع تسمح له بالمشاركة في مجالات مختلفة وإنجاز تصاميم متطورة لنواعير حماه، وقلعة حلب، وحدائق وآثار تجسّد تراث كل منطقة في سورية، وأيضاً في صنع وسائل تعليمية تخدم كل المراحل الدراسية. و"ربما يدعم ذلك المدخول المادي لعائلتي المؤلفة من سبعة أشخاص بينهم شابان يتابعان التحصيل العلمي في الجامعة، وأحاول أن أوفر أقساط تعليمهما. ويدفعني ما تمر به منطقة الشمال السوري من اكتظاظ سكاني وقلّة فرص العمل التي تجعل المداخيل لا تتناسب مع المصاريف الكبيرة المرتبطة بارتفاع الأسعار وإيجارات البيوت، إلى إيجاد مصادر أخرى للدخل من أجل التغلّب على أزماتي".
وكان لافتاً في المعارض التي شارك فيها جمعة اهتمام كثير من أبناء مناطق شمال سورية برؤية المجسّمات وتفحصها عن قرب. ويقول المهندس رأفت عثمان الذي زار معرض عفرين لـ"العربي الجديد": "كانت مجسّمات بيوت دمشق القديمة التي نفذها جمعة أكثر ما لفت نظر زوار المعرض بسبب الحرفية العالية في إنجازها بشكل فني مدهش وتصميم هندسي دقيق عكس كل تفاصيل البيوت الدمشقية".
أما محمد مرعياني الذي حضر حفلة نظمها مركز "عنبر" المجتمعي في مدينة إدلب أخيراً لتكريم سليمان جمعة فيقول لـ"العربي الجديد": "لا تشكل مجسّمات البيوت الدمشقية التي ينفذها جمعة جزءاً من الذاكرة الثقافية لأهالي دمشق وحدهم، بل جزءاً من الذاكرة الجماعية لجميع السوريين وعرب كثيرين ألفوا البيوت الدمشقية التي تظهر في مسلسلات الدراما السورية التي غزت الوطن العربي".