لم يكد اللاجئون السوريون يجدون بعضاً من الطمأنينة، ولو بإقامات مؤقتة، في الدنمارك، حتى رأوا أنفسهم أخيراً مهدَّدين بالترحيل، وقد عدّت الجهات المعنيّة دمشق وريفها منطقتَين آمنتَين
يجد أكثر من 900 لاجئ سوري في الدنمارك أنفسهم عرضة لسحب اللجوء منهم وترحيلهم إلى بلدهم، بعد تشديد القوانين في ظل حكومة يمين الوسط السابقة وبدعم اليمين المتشدد في عام 2015. وهؤلاء هم من بين آلاف آخرين عدّتهم الدنمارك ودول أوروبية أخرى لاجئين بصفة مؤقتة. وبدأت السلطات الدنماركية تنظر إلى الآتين من دمشق وريفها على أنّهم من المدرجين على قوائم الترحيل، على الرغم من تحذيرات حقوقية وسياسية وإعلامية في هذا الإطار. وتصرّ حكومة يسار الوسط (الاجتماعي الديمقراطي) على تبنّي تقرير أغلبية بسيطة من مجلس إدارة اللجوء، ترى أنّ دمشق وريفها آمنان لعودة سوريي الدنمارك.
وبالفعل، أوقفت دائرة الهجرة، وهي الجهة المسؤولة عن الإقامات في البلاد، تمديد إقامة بعض السوريين، وسط مخاوف كبيرة في صفوف أسر كاملة من إحالتها على وسم "من دون إقامة"، ما يعني توقّف حياة هؤلاء قانونياً، سواء في سوق العمل أو الدراسة أو الرعاية الصحية. يأتي ذلك في حين أنّ منظمة العفو الدولية حذّرت الدنمارك ودول أوروبية أخرى كالنمسا وألمانيا، من أنّ "اللاجئين ما زالوا عرضة للملاحقة والتعسّف".
ويجد سوريون أنفسهم في حالة من "الضياع وعدم اليقين"، بحسب ما تصف ثريا لـ"العربي الجديد". واللاجئة السورية التي تحفّظت عن ذكر هويتها كاملة، هي من منطقة المعضمية الواقعة في ريف دمشق، جنوب غربي البلاد. هي تخشى وأسرتها "تنفيذ توصيات التقرير الأخير لمجلس إدارة اللجوء الذي خلص إلى أنّ الأوضاع الحربية توقّفت في دمشق وريفها، وبالتالي صارت العودة ممكنة إليهما وبأمان ابتداءً من مارس/ آذار 2020". وتلك الخلاصة أتت بعد أكثر من عامَين (2018) من زيارات قامت بها وفود رسمية دنماركية للعاصمتَين السورية واللبنانية، وخرجت بالانطباع نفسه، الأمر الذي يترك آلاف السوريين الحاصلين على لجوء مؤقت في دول أوروبية في حالة قلق من الترحيل.
تجدر الإشارة إلى أنّ سياسة التشدّد التي انتهجتها وزيرة الهجرة السابقة في يمين الوسط، إنغا ستويبرغ، هي نفسها التي تبنّاها خلفها الوزير الديمقراطي ماتياس تيسفاي. والتوصية الأخيرة لمجلس اللجوء ترى أنّ العاصمة دمشق ليست هي الآمنة فقط، بل "المناطق الواقعة جنوب غربها التي كان يقطنها نحو مليونَي نسمة قبيل الحرب الأهلية السورية، بالتالي من الممكن سحب تصريح الإقامة من الوافدين منها".
وقد لفتت مديرة اللجوء في المجلس الدنماركي للاجئين (الجهة المسؤولة عن رعايتهم) إيفا سينغر إلى أنّ مجلس إدارة اللجوء شهد خلافاً بين الذين يرون أنّ من المبكر إعادة لاجئي دمشق وريفها وبين الذين يؤيّدون عودتهم الفورية. وفي تصريحات لها نقلتها وسائل إعلامية أخيراً، شدّدت سينغر على أنّ "الخطر ما زال كبيراً في ما يتعلق بالتعرّض لانتهاكات جسيمة إذا أوقفتك الشرطة أو غيرها، خصوصاً إذا كنت على صلة بشخص تشتبه السلطات الأمنية في أنّه معارض، أو إذا أخطأت في اسمك. ونعلم أنّ من الممكن أن يتعرّض المعتقلون للتعذيب ولانتهاكات أخرى". بالتالي، يرى المجلس الدنماركي للاجئين أنّ "تقرير مجلس اللجوء لا يقدّم الصورة الكاملة عند التوصية برفض تمديد تصاريح الإقامة، إذ إنّ التحسّن ليس كافياً ولدينا عوائل سورية منخرطة في العمل وأطفالهم منتظمون في التعليم ويجدون أنفسهم معرّضين لوقف كل ذلك بسبب سحب الإقامة. نظنّ أنّه يجب الانتظار أكثر لنعرف إذا كان في الإمكان إعادتهم إلى الوطن (سورية)".
العفو الدولية تحذّر
من جهتها، ترى منظمة العفو الدولية، بحسب ما تصرّح الباحثة والمستشارة في مجال اللاجئين والمهاجرين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ماريا فوريستر، أنّ ذهاب الدنمارك والدول الأوروبية الأخرى في اتجاه سياسة وقف تمديد الإقامات والترحيل إلى دمشق "سيعرّض هؤلاء للاعتقال إذا ما اشتبه في أنّهم هم أو أقاربهم من منتقدي الديكتاتورية السورية". وترفض المنظمة صيغ "التسوية والضمانات الأمنية من السفارات السورية في أوروبا. فهي ليست مضمونة، ولدى المنظمة أمثلة عديدة على اعتقال لاجئين عادوا".
ومنظمة العفو الدولية كانت تتهيأ لإصدار تقريرها عن سورية في شهر مارس/ آذار المقبل، خصوصاً ما يتعلق بالسجال المثار حول إعادة اللاجئين السوريين من أوروبا إلى بلادهم، لكن يبدو أنّ مجلس إدارة اللجوء والحكومة الدنماركية استبقاه، وهو ما دفعها إلى كشف بعض ممّا سيرد في التقرير. وتشدّد المنظمة خصوصاً على أنّ النقاش الدائر في أوروبا حول إعادة لاجئي مناطق سوريّة بعينها على خلفية "تحسّن الأوضاع" يترك اللاجئين في وضع نفسي صعب "وثمّة منهم مَن يخشون حتى التصريح للصحافة بشأن مخاوفهم خوفاً على أهاليهم الباقين في سورية".
تخبر مايا، من منطقة القصاع في دمشق، التي تحفّظت عن ذكر هويتها كاملة لـ"العربي الجديد"، أنّها اضطرت وعائلتها إلى اعتماد خيار اللجوء بعد فترة اعتقال بسبب نشاطها في الحراك المدني في مارس/ آذار 2011. تضيف أنّه "بعد خمس سنوات في الدنمارك، نعيش أوضاعاً نفسية صعبة. كان خطئي أنّني لم أثق بالمترجمين لأروي قصتي الخاصة، وحصلت على لجوء مؤقت. واليوم نعيش تحت رحمة الترحيل إلى نظام لا يفرّق بين شخص وآخر ما دام هو يعارضه". ومايا من بين كثيرين، سوريين وفلسطينيين - سوريين، وجدوا أنفسهم "يخشون سرد قصصهم الخاصة في ظلّ عدم الثقة ببعض المترجمين الذين كان عدد منهم يبدي تعاطفه مع النظام السوري"، بحسب ما يؤكد عبيدة محمد من الغوطة الشرقية في ريف دمشق لـ"العربي الجديد". يُذكر أنّ آلاف السوريين تمكّنوا من الحصول على اللجوء المؤقت من دون الحاجة إلى سرد قصص "الاضطهادات الفردية".
القبضة الأمنية محكمة
ويستغرب غيث أبو الرائد، الوافد من منطقة الحجر الأسود في جنوب دمشق، تبنّي رواية أنّ دمشق وريفها آمنان لعودة اللاجئين، ويقول لـ"العربي الجديد" إنّ "ثمّة عشرات آلاف إن لم يكن مئات آلاف السوريين والفلسطينيين - السوريين في لبنان والذين دُمّرت مناطقهم كالحجر الأسود ومخيّم اليرموك والقدم وغيرها، فلم لا يسأل السياسيون أنفسهم عن سبب عدم عودة هؤلاء وهم أقرب إلى سورية؟". ويؤكد غيث أنّ "القبضة الأمنية واضطهاد الناس ليسا مرتبطَين بتوقّف تدمير المدن. في الأساس لم يبقَ شيء ليعود إليه الناس في ظلّ هذا النظام الذي دمّر كلّ شيء. والتوعّد تلو التوعّد الذي يطاول اللاجئين واعتقال من دخل في ما يُسمّى تسوية مع النظام خير دليل على ذلك".
وتؤكد منظمة العفو الدولية مخاوف هؤلاء، وبحسب اريا فوريستر، الخبيرة في الوضع السوري فيها، فإنّ "أجهزة الأمن في النظام الديكتاتوري تراقب كلّ نقاش وكلّ ما يكتبه اللاجئون، واعتقالك ممكن لمجرّد إبداء رأي أو حيازتك كتاباً معيّناً، فما بالك باللاجئين الذين هربوا من الاضطهاد وتُراد إعادتهم إلى ذلك الوضع السيّئ".
وفي انتظار صدور تقريرها الشهر المقبل، أوضحت منظمة العفو الدولية في بيان صحافي أن "لا شك في أنّ دمشق وريفها ليسا آمنَين لترحيل اللاجئين إليهما. فالناس من بعض المناطق، ومن بينها داريا والمعضمية والريف الشرقي في الغوطة، التي استخدم فيها النظام الأسلحة الكيماوية، وتلك المصنّفة بأنّها استعيدت من قبل الجيش (جيش النظام)، ليسوا آمنين وهم عرضة للاضطهاد". أضافت أنّ "قوات أمن النظام السوري تشتبه في كلّ إنسان من تلك المناطق، وهو ما يعرّض أهلها للاعتقال التعسفي والتعذيب وسوء المعاملة بشتى الوسائل، ومن بينها الإخفاء القسري".
تجدر الإشارة إلى أنّ السلطات الدنماركية تدرس خيارات ترحيل لاجئي سورية إمّا مباشرة إلى دمشق وإمّا من خلال لبنان، عبر التنسيق مع النظام السوري. ويطرح وزير الهجرة ماتياس تيسفاي إمكانية منح العائدين تعويضاً مالياً للبدء بحياة جديدة في وطنهم الأصلي، من ضمن خطة أوسع لتخفيف أعداد اللاجئين والمهاجرين في بلده. ويأتي ذلك في سياق مساعٍ أوروبية أوسع، بعدما ضمن تيسفاي تعاوناً نمساوياً في السياق نفسه لرفع آليات الترحيل إلى المستوى الأوروبي الأشمل.