شهداء الجوع... نصف سكان قطاع غزة لا يجدون الطعام

12 يناير 2024
توفير رغيف الخبز مهمة صعبة في غزة (محمد الحجار)
+ الخط -

وصلت عائلة الفلسطينية علياء أبو بربر (36 سنة) في الخامس من يناير/كانون الثاني إلى مجمع الشفاء الطبي مع عائلات أخرى اتخذت منه ملجأ لها بعدما تم إفراغه من المرضى والطواقم الطبية وذلك بعد تعرضه للاقتحام من جانب الاحتلال الإسرائيلي بعد حصاره وقصفه.
كانت عائلة أبو بربر من بين العائلات القليلة في المنطقة المطلة على الشارع الذي يفصل منطقة بئر النعجة عن حي الصفطاوي في أقصى شمالي قطاع غزة، لكنها اضطرت إلى النزوح بسبب نقص الطعام، وعدم وجود وسائل للحصول عليه. تقول علياء إنها كانت ترفض النزوح من منطقتها، وقبل شهرين، كان المنزل يضم ما يقارب 50 فرداً، معظمهم أطفال ونساء، لكنها قررت المغادرة إلى مبنى المستشفى برفقة عائلتها بحثاً عن الطعام وبعض الأمان بعدما توفيت والدتها سميرة أبو بربر (59 سنة) بسبب الجوع.
تضيف أبو بربر لـ"العربي الجديد": "كنا نعاني من الجوع الشديد، ووالدتي كانت مريضة بالسكري، وتعاني من انخفاض في السكر، ولم يكن تتوفر لها أية أدوية على مدار شهر كامل، ولم يكن لدينا طعام ولا مياه، وكنت أحاول توفير عصير طبيعي أو ملعقة عسل أو قطعة حلوى لكن لا شيء متوفر، حتى الماء العادي لم يكن متوفراً في الأيام الأخيرة، وكانت تصاب بتعرق وارتجاف، وكنت أسعى للاتصال بالصليب الأحمر وغيره من الجهات، لكن لا توجد شبكة للتواصل، وقد فقدت وعيها من شدة الجوع، وظلت على هذا الحال لمدة ثلاثة أيام، ولما استمرت الغيبوبة، جاء ممرض من جيراننا، وقام بفحصها، لكنها كانت للأسف ميتة. قام زوجي بخلع البلاط من ممر المنزل، ودفناها فيه، وعندها قررت النزوح".
وتوضح: "بسبب ندرة الطعام وعدم وجود مصادر للحصول عليه، لم نتذوق السكر، أو نشرب مياهاً جيدة، أو نحصل على رغيف خبز واحد طازج منذ نهاية الهدنة في نوفمبر/تشرين الثاني. نزح كثير من أقاربنا من المنطقة رغم كل المخاطر، وبعضهم خرجوا أثناء وجود الجيش الإسرائيلي في مناطق قريبة في بدايات شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، وكانت رحلة نزوحنا صعبة للغاية لعدم وجود طاقة كافية لمواصلة السير وصولاً إلى مستشفى الشفاء. بعد وصولنا، سمعت الكثير من القصص المشابهة لقصة والدتي، ونتيجة الجوع، خسرنا الكثير من الوزن، وأصبحت أجسامنا هزيلة. لدي أربعة أطفال أكبرهم عمره 14 سنة، وأصغرهم 4 سنوات، وجميعهم يعانون من سوء التغذية، وخسر زوجي 25 كيلوغراماً من وزنه، وجرى فحصنا جميعا عندما وصلنا إلى مجمع الشفاء".

لم تدخل المساعدات الغذائية إلى شمالي غزة منذ نهاية نوفمبر الماضي

ويمنع الاحتلال وصول المساعدات الإنسانية والغذائية إلى شمالي قطاع غزة منذ 55 يوماً، وكانت آخر مرة وصلت فيها مساعدات غذائية في 30 نوفمبر/تشرين الثاني، وتستطيع أعداد قليلة من السكّان تأمين الحد الأدنى من الطعام، من دون النظر إلى جودته أو محتوياته، ويعاني الجميع من سوء تغذية حاد، وباتوا على مقربة من مجاعة حقيقية.
لقي الطفل براء الحداد (سنة ونصف) حتفه نتيجة عدم توفر الطعام والمياه، ويؤكد والده محمود الحداد (38 سنة)، النازح من حي الشيخ رضوان، أن طفله توفي نتيجة الجفاف، إذ لم يكن يتوفر لديهم أي حليب أو طعام، وكان لا يحصل على الحليب الكافي من والدته التي كانت تعاني من الهزال بسبب شدة الجوع.

تمر أيام من دون تناول رغيف خبر واحد في شمالي غزة (محمد الحجار)
تمر أيام من دون تناول رغيف خبر واحد في شمالي غزة (محمد الحجار)

يقول الحداد لـ"العربي الجديد": "كان ابني يعاني من نقص الفيتامينات، ويحتاج إلى الحليب المدعّم، وقد تعرض لمضاعفات منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي. لم نكن نستطيع العثور على حليب مدعّم بالفيتامينات له، إذ اختفت كل الأصناف خلال أول أسبوعين، بعدما أغلق الاحتلال معابر قطاع غزة، مع مسارعة الناس لتخزين احتياجاتهم. كنت عاجزاً عن تأمين الطعام والشراب العادي أيضاً، وتوفي براء في 30 ديسمبر الماضي. كانت أصعب أيام حياتي حين عجزت كأب عن فعل أي شيء. كنت عاجزاً عن مغادرة المنزل للبحث عن أي شيء يغذي زوجتي وأطفالي، وعندما أمطرت السماء، تمنيت أن تمطر حليباً بدلاً من المياه".
يضيف: "غزة خالية من جميع أنواع الخضروات والفواكه منذ شهرين، ولا يوجد طحين، ويمكن أن تحصل على كيس طحين من تحت أحد المنازل المقصوفة، وقد يكون طحيناً فاسداً، لكن الناس يعدون منه الخبز حتى لو شاهدوا فيه الدود، فليس أمامهم بدائل، ولا يمتلكون رفاهية البحث عن طحين غيره".

غزة خالية من جميع أنواع الخضروات والفواكه ولا يوجد طحين كافٍ

وحسب بيانات "التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي" في منظمة الأغذية والزراعة الأممية، للفترة الممتدّة بين ديسمبر 2023 ويناير 2024، فإن 21 في المائة من سكان قطاع غزّة يعانون من أزمة غذائية حادّة، و53 في المائة منهم يعانون من سوء تغذية حادّ، ويحتاجون إلى إغاثة فورية، فيما 26 في المائة من سكان القطاع يعانون من نقص كامل في الغذاء إلى درجة الموت جوعاً.
توفي الفلسطيني عصام النجار (63 سنة) بعد المعاناة من إسهال شديد وحالة ارتجاف بسبب عدم تناول الطعام نتيجة البقاء تحت الحصار في حي الكرامة شمالي قطاع غزة لأكثر من 25 يوماً. يقول ابن شقيقه معاذ النجار (35 سنة)، إن عمه كان يحاول النزوح وصولاً إلى شارع النصر، لكنه فشل في ذلك، وإنهم وجدوه ميتاً في الثاني من يناير الماضي.
يضيف النجار لـ"العربي الجديد": "كان عمي يعاني من إسهال حاد، وخسر السوائل المخزنة في جسده خلال فترة حصار العائلة في منزلنا بحي الكرامة، وكان ينبغي أن يتمكن من تعويض هذا النقص عبر تناول الطعام وكميات كافية من المياه. كان يعاني من أمراض مزمنة، ويتعرض للارتجاف عندما لا يأكل في الأيام السابقة على وفاته، وقد مات نتيجة الجوع، إذ إنه على مدار يومين لم يكن يأكل، وفي اليوم الثالث توفي، وقد استطعنا بصعوبة المشي وصولاً إلى مجمع الشفاء الطبي".

غالبية أطفال غزة يعانون من سوء التغذية (محمد الحجار)
غالبية أطفال غزة يعانون من سوء التغذية (محمد الحجار)

ويقول: "واجهنا تجويعاً قسرياً كبيراً، وكلنا أصبحنا مثل الهياكل العظمية التي تمشي على الأرض بعد خسارة أوزاننا، فعلى مدار نحو 50 يوماً لم نكن نتمكن من الحصول على رغيف خبز واحد يومياً، وعادة لا نعرف ماذا يمكن أن نأكل، وحين نوفر الأكل لم نكن نهتم بمحتواه، وفي كثير من المرات كنا نأكل أي شيء متاح، حتى لو لم يكن مفيداً. مات كثير من الناس بسبب سوء التغذية، فالغالبية كانت تأكل رغيفاً مخبوزاً على الصاج كل يومين إن توفر، مع رشة دقة أو زعتر إن وجدت، ومعظمهم لا يملكون المال، وحتى من يملكونه لا يجدون شيئاً يستطيعون شراءه. فتحت بعض المحلات أبوابها بعد انسحاب جيش الاحتلال، لكن الناس لم تكن تملك المال للشراء، ولا توجد صرافات آلية تعمل، والبنوك المحلية في المنطقة المحاصرة مغلقة".
ويحتاج الجسم البشري إلى سعرات حرارية يومية للحفاظ على وزن الجسم، وتبلغ الكمية اللازمة للأطفال بين 1000 و1800 سعرة حرارية، وبين 1500 و3200 سعرة حرارية للمراهقين، وبين 1600 و3000 سعرة حراريَّة للبالغين.
ويؤكد الممرض في مجمع الشفاء الطبي، أدهم أبو حليمة، أنه شاهد ما لا يقل عن عشر وفيات بسبب الجوع، لكن لا توجد جهات تتولى رصد وتوثيق تلك الحالات في المناطق المحاصرة التي يصعب الوصول إلى الناس فيها، ويقول لـ"العربي الجديد": "يعاني الجميع من الهزال، والوجوه صفراء ولا يتوفر الكثير من الطعام، وهناك المئات من النازحين الجائعين، والناس تتجمع أمام مجمع الشفاء من أجل الحصول على أي أنواع من الطعام، وأعتقد أن هناك الكثير من الوفيات بسبب الجوع التي لا نعرف عنها شيئاً".

وتؤكد وزارة الصحة في غزة والمكتب الإعلامي الحكومي ومنظمات أممية ودولية احتمال ارتفاع أعداد الوفيات في قطاع غزة بسبب الجوع، وأصدرت منظمة الصحة العالمية تقريراً في نهاية ديسمبر الماضي، تشير فيه إلى أن الجوع يجتاح غزة، ويتوقع أن يؤدي ذلك إلى زيادة الأمراض في القطاع، وبوجه أكثر حدة في أوساط الأطفال والحوامل والمرضعات وكبار السن.
وفي تقديرات جديدة، قالت الشراكة العالمية للتصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، التي تضم منظمة الصحة العالمية، إن غزة تواجه "مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي بالتزامن مع خطر المجاعة المتزايد كل يوم، واحتمال وجود أعداد كبيرة من المتوفين بسبب الجوع، خصوصاً في المناطق التي تعجز المنظمات الدولية عن الوصول إليها". 

المساهمون