خرجت من بلدتها غوير أبو شوشة وهي في الخامسة من عمرها فقط. لم تعد تذكر التفاصيل التي خلّفتها وراءها حين خرجت من فلسطين مع عائلتها التي كانت مؤلفة من أمها وأبيها، وخمسة صبيان وثلاث بنات غيرها، بل كلّ ما تذكره هو مأساة اللّجوء والتشرّد وترك بيتها. كما أنّها لم تعد تذكر أماكن اللهو التي كانت تقضي فيها أوقاتاً جميلة مع أخوتها.
تقول صالحة علي أحمد التي تتحدر من بلدة غوير أبو شوشة في قضاء طبريا، والتي تعيش اليوم في مخيم عين الحلوة، جنوب لبنان: "لم يعد لديّ راتب بعد أن توقفت عن العمل، غير ذلك الذي أتقاضاه من منظمة التحرير الفلسطينية لاستشهاد أمي، عام 1982، بعدما اعتمدتها المنظّمة شهيدة مدنية. فالشهيد المدني راتبه أقل بكثير من الشهيد العسكري، وأتقاضى راتباً لاستشهاد أمي، هو فقط مئة وأربعين ألف ليرة لبنانية (نحو عشرين دولاراً بسعر الصرف في السوق السوداء)، بعد أن تركت العمل منذ ثلاثة عشر عاماً".
تتابع صالحة علي أحمد، كلامها قائلة: "كنت في الخامسة من عمري عندما دخل علينا العدو الصهيوني، وأرغمنا على الخروج من بلدتنا. توجّهنا عندها إلى بلدة الرامة، وكانوا حينها قد أخبرونا بأنّ خروجنا هو لمجرد القيام بإحصاء للسكّان الموجودين في البلدة، وأننا سنعود إلى البلدة بعد أن تنتهي عملية الإحصاء. بناء على ذلك، تركنا كلّ ما نملكه من مال وأثاث، وكلّ ما نحتاج إليه، من ملابس وحاجيات أخرى، في البيت، ظنًّا منّا بأننا سنعود إلى بيوتنا بعد الانتهاء من الإحصاء. غير أنّنا لم نجد أنفسنا إلاّ أمام خيار واحد بعد الخديعة التي أوقعنا بها العدو، فهو لم يسمح لنا بالعودة إلى بيوتنا جميعاً، فاضطررنا إلى النزوح نحو لبنان، سيراً على الأقدام".
تضيف: "في بلدتنا لم ندخل المدارس، وبالتالي لم نتعلم. إذ كانت الفتيات تحديداً لا تذهب إلى المدارس، وكنّا نعيش حياة جيدة، فكان عندنا أراض زراعية، وكان والدي يعمل بها، ونعتاش منها. بعد وصولنا إلى الجنوب اللبناني إبان النكبة، توجّهنا نحو مدينة صيدا، وسكنا في منطقة الأميركان القريبة من مخيم عين الحلوة، وعشنا في الشوادر، وكنا نعتاش على الخبز الإفرنجي الذي كانت توزّعه علينا "أونروا"".
تروي: "لم نمكث في تلك المنطقة وقتاً طويلاً، ففي أحد أيام الشتاء العاصف، طافت مياه النهر على الشوادر، وتطايرت هذه الأخيرة في الهواء، إذ إنّ العاصفة اقتلعتها من الأرض، فتمّ نقلنا إلى مخيم عين الحلوة، لنعيش فيه أيضاً في الشوادر.
عشنا حياة صعبة جداً في تلك الفترة، وما زلنا. وبعد فترة من وجودنا في المخيم، أدرك أبي أنّ عليه البحث عن عمل، وبالفعل صار يعمل في البساتين، حتى يستطيع أن يؤمن معيشتنا. وبعد أن كبر إخوتي الشبان، صاروا يعملون بالبناء، فساعدوا أبي".
أمّا عن نفسها، فتقول: "لقد اضطررت للعمل في البيوت من أجل مساعدة أهلي، والإنفاق على نفسي، فعملت لمدة طويلة من الزمن في منزل أشخاص نعرفهم من مدينة صيدا، إلى أن تركت العمل لديهم. ثمّ عملت في مدرسة حكومية تابعة للدولة اللبنانية بصفة عاملة تنظيفات، وعملت لديهم ثلاثين عاماً، إلى أن استغنوا عن خدماتي، وطلبوا مني التوقف عن العمل".
لم تتزوّج صالحة، وهي اليوم تعيش وحيدة، لا معيل لها غير الراتب الذي تتقاضاه من المنظمة عن أمها التي استشهدت إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وفي هذا تقول: "كانت أمي مريضة، وبحاجة إلى من يهتم بها بعد أن بقينا وحيدتين أنا وهي. فقرّرت عدم الزواج من أجل الاعتناء بها. وفي عام 1982، خلال قصف العدو الصهيوني بالطائرات على مخيم عين الحلوة، سقطت قذيفة قريبة منّا أثناء هروبنا من المخيم، فأصبت أنا بركبتي واستشهدت أمي على الفور، وهكذا بقيت أنا وحدي على قيد الحياة".
وتابعت: "بسبب استشهاد أمي، تعطيني المنظمة راتبا لا يكفيني حتى لقوتي خلال الشهر، لكنهم في الوقت نفسه رفضوا أن يعتمدوني كجريحة، حتى أتقاضى راتباً آخراً يساعدني على العيش. بيتي في المخيم هو ملكي، وهذا الأمر يخفف عني عبء دفع إيجار منزل، كما كان بيتنا بفلسطين ملكا لنا، وهو البيت الذي أتمنى العودة إليه".