لا يمكن لآثار التعذيب أن تُمحى من ذاكرة الضحايا، وقد تلازمهم طالما بقوا على قيد الحياة. هم يتحدثون عمّا عانوه بمرارة، وكلّما استعادوا شريط الأحداث تنهمر دموعهم وينتابهم أحياناً الإحساس نفسه الذي خبروه عندما وقعوا ضحية تعذيب ما. وبالتالي، عبثاً يحاولون تجاوز آثار ما تعرّضوا له، فهم اختبروا معنى أن تُنتهَك الكرامة والإنسانية والجسد.
وفي اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب الذي يحلّ في 26 يونيو/ حزيران من كلّ عام، روى ضحيّتا تعذيب في تونس ما تعرّضا له من انتهاكات على أيدي عناصر أمنية.
جمال الورغي تونسي ثلاثيني من ضحايا التعذيب، يخبر "العربي الجديد" أنّه وقع ضحية اعتداء عدد من عناصر الأمن عليه في عام 2016، بعد نشوب خلاف بالقرب من منزله في منطقة تاجروين شمال غربي البلاد. يضيف أنّه كان عائداً من عمله عندما رأى تجمّعاً للأمن فيما يتعرّض شقيقه لاعتداء، فحاول الاستفسار والتدخل لكنّه لم يستفق إلا في المستشفى بعد أسابيع عدّة قضاها في غيبوبة.
ويعاني جمال من ضرر جسدي يقدّر بنسبة 80 في المائة، وهو يتكلم بصعوبة وبالكاد يمشي، في حين أنّ آثار الضرب ما زالت محفورة في جسده وكذلك في ذاكرته، علماً أنّه فقد عمله بعدما كاد يفقد حياته.
ويشير جمال إلى أنّه ما زال يجهل، حتى اليوم، سبب العنف الشديد الذي طاوله ولماذا ضُرب بتلك الطريقة فيما كان يسأل عناصر الأمن عن شقيقه. يُذكر أنّ بعد ذلك لم يغادر المستشفى إلا بعد ثلاثة أشهر تقريباً وهو يعاني من عدد من الإعاقات. ولا يخفي جمال أنّ المسار القضائي طويل وأنّ ملفّه لم يُغلَق حتى اليوم، في حين أنّ التعويضات لم تُحسم بعد وتُخفَّض قيمتها في كلّ جلسة محاكمة. لكنّ جمال يشدّد على أنّه مهما بلغت قيمة التعويضات فإنّها لن تعيد إليه تعافي جسده، لافتاً إلى أنّ أسرته تشتّتت وهو عاجز عن إعالة أبنائه الصغار. ويؤكد أنّ الأضرار جسيمة وهي جسدية ونفسية ومعنوية وآثارها كبيرة.
من جهتها، تخبر فاطمة، والدة جمال، أنّها لم تعلم بنقل ابنها إلى المستشفى في محافظة الكاف (شمال غرب) إلا صدفة بعدما لمحته ممرّضة مقرّبة من العائلة فاتصلت بهم لتفيدهم بما حلّ به. وتشير فاطمة لـ"العربي الجديد" إلى أنّ وجهه كان منتفخاً عندما رأته في المستشفى، وهي لم تتخيّل حينها أن يستفيق في يوم، إذ كان في حالة يُرثى لها بعدما تعرّض لضرب شديد في مركز للأمن وكذلك في خلال نقله إليه. وتؤكد أنّ حياة أفراد العائلة تغيّرت منذ ذلك الحين.
وتشدّد على أنّها لا تطلب شيئاً سوى كشف حقيقة ما تعرّض له جمال في داخل مركز التوقيف ومحاسبة المتورّطين، خصوصاً أنّ المعتدين ما زالوا يمارسون عملهم حتى يومنا.
في سياق متصل، يقول السجين السياسي السابق رشاد جعيدان إنّه تعرّض للتعذيب والضرب في خلال حكم الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي. يضيف لـ"العربي الجديد" أنّه سُجن في عام 1993، ورفع دعوى ضدّ الدولة التونسية في عام 2011 أي مباشرة بعد الثورة والإطاحة ببن علي، لكنّ ملفّه يراوح مكانه حتى اليوم على الرغم من عقد 22 جلسة لدى الدوائر المتخصّصة في العدالة الانتقالية. ويشير جعيدان إلى أنّ ملفّه أُرسل إلى لجنة ضحايا التعذيب في الأمم المتحدة وقد أُدينت السلطة المتسبّبة بذلك في عام 2017.
ويوضح جعيدان أنّه تعرّض لشتى أنواع التعذيب في السجن، وكلّما تحدث عن الأمر ينتابه الألم نفسه التي عاشه، وهذا أمر غير محصور به فقط بل يعيشه جلّ ضحايا التعذيب. ويؤكد أنّ النظام السابق كان يستهدف حتى عائلات هؤلاء الضحايا، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحصل للضحية.
ويرى جعيدان أنّ مسار العدالة الانتقالية بعد الإطاحة بالنظام السابق نُسف، لكنّ ثمّة ضحايا يتمسّكون رغم ذلك بحقوقهم وهم مستعدّون للذهاب بعيداً والدفاع عن قضاياهم حتى الرمق الأخير، مشدّداً على أنّ "قضايا التعذيب لن تموت".