استمع إلى الملخص
- التحديات النفسية والاجتماعية: يعاني الطلاب من صدمات نفسية، ويعيشون في مدارس مدمرة أو كمراكز إيواء، مما يهدد بضياع جيل كامل بسبب انقطاع التعليم.
- محاولات التكيف واستمرار التعليم: تلجأ الجامعات للتعليم الإلكتروني رغم تحديات الكهرباء والإنترنت، وسط تحذيرات من "إبادة تعليمية" وضرورة إعادة بناء البنية التحتية.
بعد عام على اندلاع الحرب تغرق غزة في شبح التجهيل المتعمد عبر حرمان أجيالها من التعليم، بعدما كانت تتغنى بارتفاع مستوى التحصيل العلمي لطلابها، واعتمدت دول خليجية، مثل الكويت، على مدرسيها خلال مراحل زمنية.
مثل حال باقي مجالات الحياة في غزة، تعرض قطاع التعليم لـ"إبادة" عبر هدم المدارس والجامعات وقتل الطلاب والمدرسين والأكاديميين، وقصف المئات منهم وهم نائمون في بيوتهم وبين أطفالهم، وأسقط الاحتلال الإسرائيلي بالتالي المنظومة التعليمية، وهدم أحلام الطلاب ومستقبلهم وأبناء جيل فلسطيني كامل، عبر حرمانهم من الدراسة للعام الثاني، وابعادهم عن مقاعد وأسوار المدارس المدمّرة.
وحرم أكثر من 650 ألف طالب وطالبة من الالتحاق بمدارسهم للعام الدراسي الثاني على التوالي، إضافة إلى نحو 100 ألف طالب وطالبة في مؤسسات التعليم العالي، و35 ألف طفل في مرحلة رياض الأطفال.
"لا يمكن بدء الدراسة إلا بوقف العدوان"، هذا ما يقوله متخصصون في مجال التعليم بغزة لـ"العربي الجديد"، محذرين من مخاطر مستقبلية لتدمير 125 جامعة ومدرسة بشكل كلي، علماً أن الاحتلال دمّر 337 مدرسة وجامعة جزئياً.
وبحسب وزارة التربية والتعليم في غزة، استشهد منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أكثر من 11600 طفل فلسطيني في سن التعليم المدرسي، وأصيب عشرات الآلاف بجروح وإعاقات جسدية وصدمات نفسية، كما استشهد أكثر من 1100 طالب وطالبة وأكثر من 750 معلماً وموظفاً تربوياً وإدارياً ونحو 130 عالماً وأكاديمياً وأستاذاً جامعياً. وهناك آلاف الإعاقات في حين لا يزال مصير المئات مجهولاً.
في أحد الفصول الدراسية بمدرسة تابعة لـ"أونروا" بمحافظة خانيونس، لا تفارق الطفلة سارة (11 عاماً) أسوار المدرسة، لكن ليس للتعلّم بل للمبيت، كونها نازحة مع عائلتها. تقول لـ"العربي الجديد" وهي تجلس أمام الفصل مسترجعة ذكرياتها: "اشتقت للعودة إلى مقاعد الدراسة وللتعلّم واللعب مع صديقاتي في الفسحة المدرسية. لا أعرف متى سيتحقق ذلك، ولا أعلم من بقي من صديقاتي على قيد الحياة".
لا يوجد للمدرسة باب ولا سور خارجي بسبب التدمير، وتحوّل لون طلائها السماوي إلى أسود، بعدما أحرقها جيش الاحتلال خلال اجتياحه محافظة خانيونس. والمدرسة المجاورة مليئة بفتحات كبيرة في الجدران جراء قصف جيش الاحتلال. وليس بعيداً عن المشهد مدرسة قسمها القصف إلى نصفين، ويعيش فيها نازحون.
هذه صورة مصغرة عن مشهد عام مشابه في جميع المدارس والجامعات التي طاول الدمار معظمها بالشكل نفسه، أو بمسحها بالكامل.
ووفق وزارة التربية والتعليم يستمر الاحتلال في استهدافه المنشآت التعليمية بشكل متكرر، رغم استخدام ما تبقى منها كمراكز إيواء للنازحين، ما تسبّب في التدمير الكلي أو شبه الكلي لـ93% من المباني المدرسية، فدمّر أكثر من 130 منشأة إدارية وأكاديمية في الجامعات والكليات والمعاهد بقطاع غزة.
ويحذر خبراء أمميون من "إبادة تعليمية متعمدة" في قطاع غزة، عقب تدمير أكثر من 80% من المدارس، مع تواصل الحرب الإسرائيلية المدمرة عليه منذ أكثر من عام، وأن لذلك آثاراً طويلة الأمد على حقوق السكان الأساسية في التعليم، والتعبير عن أنفسهم، ما يحرم جيلاً آخر من الفلسطينيين من حقوقهم. ويسألون إذا كان هناك هدف متعمد من الاحتلال لتدمير نظام التعليم الفلسطيني بشكل شامل، وهو عمل يعرف باسم "الإبادة التعليمية".
ويشير مصطلح الإبادة التعليمية إلى المحو الممنهج للتعليم، من خلال اعتقال أو احتجاز أو قتل المعلمين والطلاب والموظفين، وتدمير البنية التحتية التعليمية.
كارثة حقيقية
يصف المتحدث باسم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، عدنان أبو حسنة، حجم الدمار الذي طاول المؤسسات التعليمية بأنه "مهول للغاية"، مؤكداً أن حوالي أكثر من ثلثي مدارس "أونروا" جرى تدميرها بالكامل أو جزئياً، بحيث يصعب العودة إليها من دون أن تحصل عملية إعمار.
ويقول أبو حسنة لـ"العربي الجديد": "ما تبقى من المدارس تستغل بجعلها مراكز إيواء، تضم عشرات الآلاف من النازحين، وما جرى نكبة وكارثة حقيقية أصابت القطاع التعليمي".
ويمنع وجود مئات الآلاف من النازحين داخل مدارس الوكالة، وفق أبو حسنة، العودة إلى التعليم الوجاهي، كما أنها تعرضت لتدمير داخلي للمقاعد والجدران، وكل ما يتعلق بالبنى التحتية من أنظمة مياه وطاقة شمسية أصبحت غير موجودة.
وعن آثار الدمار على مستقبل الجيل، يؤكد أبو حسنة أنه "يجري تدمير جيل بكامله بعد أزمة فيروس كورونا حين لم تنفذ عملية تعليم حقيقية، وأخشى أن يدخل العام الثاني من الحرب، ويوجد أطفال في سن عشر سنوات لا يستطيعون القراءة ما سيكون له تأثير خطير على مستقبل الفلسطينيين في غزة".
يضيف: "تفتقر غزة إلى كل الثروات، بالتالي التعليم والإنسان هو ثروتها الحقيقية. وهذا التدمير للأجيال القادمة سيكون له تأثيرات سلبية وخطيرة تضاف إلى أن مئات الآلاف من الطلاب والأطفال مصابون بصدمات نفسية وعقلية، قدمت لهم مئات الآلاف من الاستشارات النفسية خلال العام، ونظمت الوكالة أنشطة لا منهجية داخل المدارس لتحرير الأطفال من الضغط".
ويحذر من وجود تهديد حقيقي بضياع الأجيال، مؤكداً جاهزية الوكالة في حال توقف إطلاق النار للبدء بالموسم الدراسي من الصفر أو في خيام تعليمية كما حصل عام 1948، وأنها مستعدة لإعادة التجربة، لكن المطلوب هو الأمان، وإدخال جميع الأجهزة والمعدات المتعلقة بالقطاع التعليمي.
دمار كبير
من جهته، يؤكد المتحدث باسم وزارة التربية والتعليم بغزة الدكتور محمود مطر أن 73% من المباني المدرسية خرجت عن الخدمة، إضافة لجميع المباني الإدارية، وتلك للمديريات والمخازن ومراكز التعليم الإلكتروني، مع دخول العام الدراسي الثاني والطلاب منقطعون عن العملية التعليمية، ما يضع الوزارة أمام تحدّ كبير حتى في حال انتهاء الحرب.
ويقول مطر لـ"العربي الجديد": "حتى في حال توقفت الحرب من الصعب جداً استئناف الدراسة مباشرة، وستحتاج الوزارة إلى نحو 310 مدارس مؤقتة، كما أن أحدى إشكاليات التعليم التي لها علاقة بتعويض العام الدراسي تتمثل في تزايد التحدي مع طول مدة انقطاع الطلاب عن التعليم".
ويؤكد "تعرّض قطاع التعليم لدمار كبير، وتأثره بأزمة النزوح، لذا من الصعب استئناف الدراسة قبل تنفيذ عمليات بناء كاملة لمدارس تحتاج بعضها إلى إزالة كاملة. ويحذر من خطورة انقطاع الطلاب عن العملية التعليمية، خاصة في الصفوف الدنيا الذين لم يتأسسوا بشكل جيد منذ أزمة فيروس كورونا.
ويضم قطاع غزة سبع جامعات و11 كلية، منها مؤسسات تعليم عال خاصة حكومية، ومنها أيضاً كليات تابعة لـ"أونروا" معظمها تعرض لأضرار أو تدمير.
ويوجد في قطاع غزة 88 ألف طالب ونحو 160 ألف خريج دمرت الحرب أحلامهم، كما دمرت جامعاتهم، وينتظرهم مستقبل مجهول.
ولعل تدمير جامعة الإسراء التي تعرّضت للنسف في فيديو نشره جيش الاحتلال يظهر أحد أكثر الجرائم الدموية التي طاولت الصروح التعليمية في 17 يناير/ كانون الثاني 2024 بعدما لم يبقَ فيها حجر أو مقعد دراسي واحد. وبضغط زر التفجير تطاير صرح الجامعة في الهواء، وتناثرت أحلام الطلاب والخريجين، مخلفاً دماراً هائلاً.
وبصدمة تابعت خريجة الصحافة والإعلام، عبير الخرطي، الفيديو المتداول، بعدما كان يفصلها فقط آخر سبع ساعات دراسية للتخرج والانخراط في حقل الإعلام، إذ كانت تأمل أن تعود لأحضان الجامعة بعد توقف الحرب، فنسف التدمير كل أحلامها وأحلام بقية الطلاب.
وتقول لـ"العربي الجديد": "كنت أنتظر التخرج بفارغ الصبر، والكثير من طلاب المستوى الأخير كانوا ينتظرون لحظة احتفال التخرج، خاصة أن الجامعة كانت قد انتهت قبل أيام قليلة من العدوان من تنظيم حفل مميز، أشاد به كل من شاهده، وجعل الطلاب يتشوقون لتلك اللحظة التي لن تعود بعد تدمير الجامعة".
وكما خطف تدمير الجامعات حلم عبير، أنهى أحلام الطالبة في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية، سمية عبد ربه، التي كانت باشرت مشروع التخرج في الفصل الدراسي الأخير، وكانت محتارة بين ثلاثة عناوين استوحت أفكارها من الحرب، لكنها استشهدت في قصف إسرائيلي لشقة نزحت إليها بمخيم النصيرات ليلة 27 أغسطس/ آب 2024 مع شقيقها محمد قبل مناقشة البحث.
وتعرّضت الجامعة الإسلامية التي تعتبر إحدى أكبر الجامعات في قطاع غزة وتجاوز عدد طلابها 16 ألفاً لسنة 2021 - 2022 لقصف في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وهو اليوم ذاته لقصف جامعة الأزهر.
وتحاول جامعات غزة إنقاذ مستقبل طلابها عبر التعليم الإلكتروني، لكن مشاكل انقطاع الكهرباء، وتعطل الهواتف المحمولة، وضعف شبكة الإنترنت، من ضمن العوائق التي تهدد بعدم نجاح التجربة.
مريم نبهان، وشقيقتها ملك، تستكملان دراسة التمريض في الجامعة الإسلامية عن بعد، لكن موضوع توفير الإنترنت لمتابعة الدراسة، أو إرسال أجوبة الاختبارات التي يرسلها المحاضر تحدٍّ كبير يواجه الطالبتين.
وتقول مريم لـ"العربي الجديد": "أسكن في مدينة غزة، ومن حسن حظي أن لدى أحد أقربائي نقطة اتصال عبر جهازه الحديث الذي يدعم الاتصال عبر الأقمار الصناعية. ورغم ذلك ينقطع الاتصال في كثير من الأحيان أو يكون ضعيفاً ما يعوق التواصل، رغم رغبتي الكبيرة في التخرج، خصوصاً أنني أدرس في آخر الفصول، أما شقيقتي فلا إنترنت لديها، وتضطر إلى استعمال ما توفره شبكات الإنترنت المدفوعة المنتشرة في الطرقات، وهي ضعيفة جداً، ولا يمكن الاعتماد عليها في عملية تعليمية إلكترونية".
استهداف متعمد
يؤكد منسق الحملة الوطنية للمطالبة بتخفيض الرسوم الجامعية، إبراهيم الغندور، أن الاحتلال تعمّد استهداف قطاع التعليم وتدميره، لأنه العمود الفقري الذي كانت تبنى عليه كل القطاعات الأخرى، والهدف من إبادة قطاع التعليم منع أي عملية نهوض".
وحول عودة بعض الجامعات للتعليم عن بعد، يرى الغندور أن ظروف القطاع بسبب العدوان غير مهيأة لذلك، لأن عشرات الآلاف من الطلاب نزحوا عن بيوتهم، ويعيش بعضهم في خيام، كما تطالب بعض الجامعات الطلاب بدفع رسوم، في ظل ظروف اقتصادية صعبة تعيشها العائلات بسبب الحرب، أو ترحيلها إلى محفظة الطالب لتسديدها لاحقاً.
أما مدير عام التعليم الجامعي السابق في وزارة التربية والتعليم العالي، خليل حماد، فيقول لـ"العربي الجديد" إن القطاع الجامعي تلقى خسارة مدمرة وغير مشهودة في التاريخ. بالتالي لا يصلح مكان للتعليم العالي، بسبب عمق الدمار الذي طاول كل مباني المؤسسات التعليمية ومحتوياتها بمختلف أنواع الوسائل التعليمية والذي لم يتوقعه أحد، فضلاً عن استشهاد الكوادر التعليمية. ويعتبر حماد أن مخاطر ما حدث على الأجيال اللاحقة تطاول كل مجالات الحياة.