مع تزايد أعداد السكان، أصبح الناس يُسيطرون بصورة مستمرة ومتزايدة على عدة موائل ويتوسّعون في مناطق جديدة أكبر من أي وقت مضى. كما أن نمو مجموعات الطيور يتطلب مساحات وموارد غذائية جديدة. تاريخياً، قد يتغير هذا النمو بشكل جدي إذا ما حصل في قرى أو مدن خاضعة لتخطيط منظم أو جرى في قرى أو مدن مكتظة بالناس وملوثة لدرجة أن التلوث فيها بات يهدد البيئة الطبيعية.
انتشرت الطيور وتنوعت في كل اليابسة تقريباً، في الموائل المتنوعة والارتفاعات المتفاوتة. وقدرتها على الطيران لا شك مكنتها من اختيار موائل أخرى أفضل وبسرعة كبيرة من خلال استكشاف البيئات المجاورة وتلك الأبعد التي توفر لها متطلباتها الأحسن. مع ذلك، نجد أن بعض أنواع الطيور تفضل البقاء مع الإنسان، متمسكة ببيئتها التي أخذها منها البشر بعدما كانت تشكل المكان الذي نشأت فيه ووجدت فيه كافة احتياجاتها البيئية وتطورها. هذه الطيور قررت خوض تجربة البقاء قرب البشر واستكشاف المرافق التي تساعدها على التفريخ ومصادر الغذاء المتبقية لها والإستفادة من حماية البشر لها لمجرد قربها من الإنسان، مع العلم بأن هذا الأخير يستغل اليوم ما مجموعه 400 نوع من الطيور المهددة بشكل مباشر وأساسي من خلال الصيد إما لتناولها كغذاء أو حبسها في أقفاص للاتجار بها. ورغم تدمير البيئة وبالتالي الموائل، تمكنت بعض أنواع الطيور، وبنجاح، من التأقلم إلى جانب الإنسان في بيئته القروية والمدنية.
لكن هذا لم يحصل في الوقت نفسه، بل كان نتيجة تكيفات متفرقة وتغيرات متتالية حدثت مع مرور الزمن. لعل النوع الأول من جوارح الطير الذي نجح بالتعايش مع الإنسان هو الصقر العوسق (صقر الجراد)، الذي أصبح يعشش على أعمدة الكهرباء وشبابيك المنازل وشرفاتها، خصوصاً في المناطق الزراعية التي توفر له الطعام من آفات زراعية حشرية وحيوانية، على طول الشريط الساحلي الممتد شرقي البحر المتوسط. ويليه الصقر الشاهين الذي يقضي الشتاء على سبيل المثال في بيروت سنوياً، حيث يعيش على الحمام شبه الداجن الذي يعشش في المباني المهجورة والمتضررة من الحرب الأهلية (1975-1991).
ومن الطيور الذكية، نجد الغراب بأنواعه المختلفة، والذي أصبح ينتشر في المدن منذ أوائل القرن الماضي، خصوصاً تلك التي تتكدس فيها النفايات أو تكثر فيها المواشي. أما في الغرب، فنجد أن غراب الزرع والعقعق ينضمان إلى الغراب المقنع في الظهور في المطارات والحدائق. ويقوم العصفور الدوري في كل أنحاء العالم باستيطان كل ثقب في مبنى جديد أو قديم أو قيد الإنشاء ليعشش فيه ويقتات على فتات المنازل والمطاعم والحشرات التي تقتلها السيارات على الطرقات وعلى آفات المزارع، خصوصاً مزارع الحبوب على أنواعها، وهو أيضاً يفضل المبيت على الأشجار القريبة من ثقوب المباني، ويقوم في الصباح الباكر بالتهام الحشرات الليلية التي حطت على هذه الأشجار.
ومن الطيور التي استوطنت المدن، نذكر حمام الصخور والدلم الذي يشاهد في المنتزهات والحدائق العامة واليمام الضاحك أو يمام النخيل (استيتية)، واليمام المطوق، وكلها تنتمي إلى فصيلة الحمام التي تتغذى على ثمار أشجار الشوارع وعلى ما يقدمه لها الإنسان من طعام.
أما النوارس، فقد أصبحت تجد لنفسها الغذاء في المدن الساحلية التي ما زالت ترمي نفاياتها السائلة في البحر وتكدس قمامتها على شكل جبال تستقطب هذه الطيور. حتى بومة الحظائر أصبحت تعشش تحت قرميد البيوت طالما أن الغذاء متوفر لها في أماكن قريبة. وعلى ما يبدو أنها تركت الحظائر للسنونو لكي يعشش فيها، بينما يعشش خطاف الضواحي (نوع من السنونو) على جدران المباني الخارجية وشرفاتها.
لن نتحدث هنا عن الطيور التي تأقلمت مع المدن خارج منطقة الشرق الأوسط لأن الأعداد كبيرة ولن تتسع لها هذه الصفحات. لكن نكتفي بذكر اللقلق الأبيض الذي انتقل من التعشيش في أعالي الأشجار البرية إلى أسطح المنازل وعلى مداخنها وفوق أعمدة الكهرباء والهاتف، بينما اتخذ من المزارع وبرك الري أماكن له يتغذى عليها. كما تقبل الأعشاش الإصطناعية وأخرى بنيت له على الأرض، فتأقلم معها، إذ يشعر بالأمان مع أناس أحبوه لأن أهلهم كانوا يخبرونهم أنه يأتي بالأطفال في صرة يحملها بمنقاره، بالإضافة إلى إخلاص الزوجين لبعضهما البعض، فحظي بحمايتهم.
ولا بد أخيراً من الإشارة إلى إنتشار نوعين من الطيور في مدننا وقرانا كانا قد أدخلا خطأً وأصبحا آفة يجب التخلص منها وهما الببغاء الأخضر المطوق الصغير الذي يهاجم المزروعات والأشجار المثمرة، وطائر المينا الذي يهاجم الطيور الأخرى ويلتهم صغارها ويسطو على أعشاشها.
(اختصاصي في علم الطيور البرية)